بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس التاسع من دروس الصحابيات الجليلات ، مع أمهات المؤمنين ، مع زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الثانية ، التي كانت بعد خديجة وقبل عائشة ، مع أم المؤمنين سودة بنت زُمعة ، هذه الزوجة التي تزوَّجها النبي عليه الصلاة والسلام لحكمةٍ سوف نقف عليها من خلال سيرتها .
هذه الزوجة الطاهرة أسلمت بمكة قديماً ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، وينبغي أن نتصور ما معنى أن يترك الإنسان بلده التي ولد فيه ؟ ما معنى أن يدع الإنسان مسقط رأسه ؛ لسببٍ بسيط ، لمضايقةٍ يسيرة ، لضغطٍ خفيف أم لشيءٍ لا يحتمل ، شيءٍ لا يطاق ؟ .
أيها الإخوة ... الصحابة الكرام الذين أسلموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذكوراً وإناثاً ، في أول الدعوى الإسلامية لهم عند الله مقامٌ كبير ، لأنهم تحمَّلوا ، وتحملوا الشيء الكثير ، حتى إن الهجرة إلى الحبشة كانت متنفَّساً لهم من شدة الضغط الذي تحمَّلوه .
لو أن أحدنا سأل نفسه هذا السؤال : هل تحمَّل واحد بالمليار مما تحمَّله الصحابة ؟ تدخل إلى المسجد ؛ تصلي ، وتحضر درس علم ، وتقرأ القرآن ، وتعود إلى بيتك آمناً ، تصلي قيام الليل إذا شئت ، لا أحد يعترضك ، تفعل في بيتك ما تشاء ، لا أحد يأخذ عليك أنك مسلم ، ماذا ذاق المسلمون في جنب ما ذاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟
أسلمت بمكة قديماً ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، ومات زوجها هناك ، وقد ورد أنه ما عُبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر ، الإنسان أحياناً يتزوج امرأةً لجمالها ، وقد يتزوّجها لمالها ، وقد يتزوجها لدينها ، وقد يتزوجها جبراً لخاطرها .
هذه الزوجة الطاهرة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحاديث كثيرة ، وروى عنها ابن عباس ، وتوفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب ، فمن التي خطبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ خطبتها خولة بنت حكيم ، المرأة نفسُها التي خطبت السيدة خديجة لرسول الله ـ قبل ربع قرن ـ هي نفسها ، يروي الإمام الطبري في تاريخه أنّ خولة بنت حكيم قالت : " يا رسول الله ألا تتزوج ؟ " . النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
إخواننا الكرام ... الزواج جبر ، فتاة ، طاهرةٌ ، عفيفةٌ تنتظر زوجاً، تنتظر أن يطرق بابها خاطب ، هكذا خلقها الله عزَّ وجل ، جعل فيها دافع الأمومة ـ دققوا - أقوى دافعٍ في الجنس البشري - دافع الأمومة - الفتاة أحياناً بخلاف ما تتصورون ، طلبها للزواج ليس كطلب الزوج للزواج ، شهوة الرجل حسيَّة ؛ لكن المرأة رغبتها في الزواج أن تكون أماً، أن يخطبها خاطب ، إذاً هي مرغوبٌ فيها ، إذاً هي مطلوبة ، لذلك : ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
جميل جداً أن تتعرَّف إلى إخوانك ، هذا الأخ عنده بنات ، فإن رأيت شابًا مؤمناً مستقيماً ، طاهراً عفيفاً ، دللته على امرأةٍ طيبةٍ طاهرةٍ عفيفة هذا أعظم عملٍ تفعله .. ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
قال تعالى :
(النساء : من الآية 85)
"يا رسول الله ألا تتزوج ؟ " ، قالت هذا الكلام بعد وفاة السيدة خديجة بثلاث سنوات ، معنى ذلك النبي عاش وحيداً ، والأزواج يعرفون ؛ المرأة سكنٌ لزوجها ، ومن أصعب الحالات أن يفقد الرجل زوجته ، والنبي عليه الصلاة والسلام بموت السيدة خديجة فقد الدَعم الداخلي ، وبموت عمِّه أبي طالب فَقَدَ الدَعم الخارجي ، في زمنٍ قصير فَقَدَ نصيره خارج البيت ، وفَقَدَ نصيره داخل البيت ، إذاً ذاق النبي الوحدة ، ذاق الوحشة ، ذاق موت النصير ، ذاق موت القريب ، ذاق موت أحب الناس إليه .. ((إن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، منزل ترحٍ لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى)) .
فقال عليه الصلاة والسلام : " ومن ؟ " ، هناك أشخاص مترفِّعون ، عندهم كبر ، أحياناً تعرض على إنسان عملاً ، لا أحب العمل ، لا أعمل ، لا أوافق ، قبل أن يفهم ، تعلَّم هذا الأدب ، قال : " ومن ؟ " قالت : " إن شئت بكراً وإن شئت ثيِّباً " ، قال : " فمن البكر " ، قالت : " ابنة أحب خلق الله إليك ، عائشة بنت أبي بكر " ، إن أردت بكراً ، قال : " ومن الثيِّب " ، قالت : " سودة بنت زُمعة قد آمنت بك ، واتبعتك على ما أنت عليه " .
نقطة دقيقة ... الإنسان يتزوج ، هذه الزوجة أقرب الناس إليك ، إن لم تكن على شاكلتك ، إن لم تؤمن بما تؤمن ، إن لم توقِّر ما توقِّر ، إن لم ترجو ما ترجو ، إن لم تكن على الشكل الذي يرضيك ، كيف تعيش معها ؟ فهذا الذي يذهب إلى بلاد الغرب ، ويقترن بامرأة راق له شكلُها ، لكن أهلها ؛ طباعهم ، عاداتهم ، تقاليدهم ، قيمهم ، مبادئهم ، ديانتهم ، فكيف تستطيع العيش معها ؟
فما من علاقة أقرب من الزوج إلى زوجته ، يسمونها علاقة حميمة ، أي أنها علاقة من أعلى درجات العلاقات ، أيعقل أن تكون زوجتك على غير شاكلتك ، تؤمن بما لا تؤمن ، أو تكفر بما تؤمن ، تحب ما لا تحب ، ترضى بما لا يرضيك ؟!! مستحيل .
قالت : " آمنت بك يا رسول الله واتبعتك على ما أنت عليه " . قال : ((فاذهبي فاذكريها علي)) .
( من مجمع الزوائد : عن " خولة بنت حكيم " )
أي اخطبيها لي ، فجاءت فدخلت بيت أبي بكر قالت : ثم خرجت فدخلت على سودة فقالت : " أي سودة ـ أي يا سودة ـ ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة ؟! " ، فقياساً على ذلك إذا كان طالب العلم إنسانًا ملتزمًا ، مؤمنًا يحب الله ورسوله ، يخشى الله ، يُرضي الله ، يتحرَّى الدخل الحلال ، إنفاقه حلال ، جوارحه مضبوطة ، هذا إذا خطب ينبغي ألا يتردد في الموافقة عليه ، هذا مكسبٌ كبير ، طالب العلم كفءٌ لأيَّة فتاةٍ على الإطلاق .
" أي سودة ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة ؟ " ، قالت : " وما ذاك ؟ " ، قالت : " أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يخطبكِ عليه" ، فقالت : " وددت " ، أي والله أتمنى ، أرأيت هذا الأدب أيضاً ؟ في إنسان تعرض عليه شيء يتأبَّى ، ومن الداخل يذوب شوقاً إليه ، لكنه يتأبَّى لكبرٍ فيه ، قالت : " وددت ادخلي على أبي فاذكري له ذلك " .
قالت : " وهو شيخٌ كبير ، فدخلت عليه ، فحييته بتحية الجاهلية ، ثم قلت : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة " ، قال: " كفءٌ كريم " .
نقطة دقيقة ، جاءته الرسالة ، لو أن الناس يعلمون عنه شيئاً في الجاهلية قبل الإسلام لذكروه بصوتٍ عالٍ ، الأنبياء معصومون قبل النبوة ، لا يستطيع أحدٌ أن يتكلَّم عنهم كلمة ، قال : " كفءٌ كريم ، فماذا تقول صاحبته ـأي مخطوبته ـ " ، قالت : " تحب ذلك " ، قال : " ادعيها لي " ، فدُعيت له .
قال أبوها : " أي سودة ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبكِ ، وهو كفء كريم ، أفتحبين أن أزوِّجْكِهِ ؟ " قالت : "نعم " ، قال : " فادعيه لي " ، فدعته ، فجاء فزوجه .
طبعاً صاحب الحاجة هو الذي يأتي ، هذا أدب أيضاً ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبيها ، وخطبها منه ، وتزوجها .
يروي الحافظ ابن كثير والإمام أحمد في المسند محاورةً جرت في هذا الموضوع ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهَا سَوْدَةُ وَكَانَتْ مُصْبِيَةً ـ أي لها صبيان ـ كَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَةٍ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ - هناك من يدَّعي ، ومن يتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان مغرماً بالنساء ، هذه امرأةٌ متقدمةٌ في السن ، عندها خمسة أولاد ، مُصْبِيَة - فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي قَالَتْ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِيَّةِ إِلَيَّ وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةَ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً - أي أن يمنعوا راحتك ، خمسة أولاد ، كان قدوةً عليه الصلاة والسلام ، امرأةٌ مسنَّة يتزوجها ، وعندها خمسة أولاد ، هي نفسها خافت أن تزعج النبي عليه الصلاة والسلام ، هي نفسها خافت أن يكون أولادها عبئاً على النبي عليه الصلاة والسلام - قَالَ فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُكِ اللَّهُ إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ)) .
( من مسند الإمام أحمد : عن " عبد الله بن عباس " )
فالإنسان إذا تقدَّم في السن تكثُر حاجاته ، لذلك الزوجات الطاهرات المخلصات هنَّ اللواتي يضاعفن من خدمة أزواجهن إذا تقدَّمت بهم العمر ، طبعاً حينما يكون شاباً يخدمنه خدمةً عالية ، أما إذا تقدَّمت به السن ضعفت الخدمة ، فقال عليه الصلاة والسلام (إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ)) .
( من مسند الإمام أحمد : عن " عبد الله بن عباس " )
أي خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها .
هناك مشكلتان في بيوت المسلمين ؛ الأولى أن الزوجة تعتني بزوجها عنايةً فائقة وتهمل أولادها ، تدعهم في الطُرقات ، ثيابهم غير نظيفة ، أعمالهم غير مرتَّبة ، دراستهم متخلِّفة ، لكنها تعتني بزوجها لأنه مصدر سعادتها ، هذا مرض .
المرض الثاني تعتني الزوجة بأولادها على حساب زوجها ، تهمله ؛ تهمل طعامه ، وشرابه ، وثيابه ، كل همها لأولادها ، هذا خطأ وهذا خطأ، هذا تطرُّف وذاك تطرُّف ، خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها ، وقد لا تصدقون أن المرأة التي تحسن تبعُّل زوجها هذا العمل يعدل الجهاد في سبيل الله ، ولكن من هي هذه المرأة التي تتفهَّم هذا الحديث الصحيح الذي رواه النبي عليه الصلاة والسلام : ((انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله)) ، أي الجهاد في سبيل الله .
( من كنز العمال : عن : أسماء بنت يزيد " )
كُتَّاب السيرة يقولون : " خولة بنت حكيم هذه لم تكن تستطيع أن تكون جريئةً إلى هذا الحد ، لأنها تدخَّلت في أخصَّ خصوصيَّات النبي عليه الصلاة والسلام ، تدخَّلت في حياته الشخصيَّة ، لولا أنها رأت من الوَحشة التي خيَّمت على بيت النبي بوفاة الزوجة الصديقة العزيزة الغالية .
بصراحة الزوجة الصادقة ، الوفيَّة ، الصالحة موتها يهدُّ أركان البيت، والزوج الصالح الوفي موته يهدُّ أركان البيت ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذاق فقد الزوجة ثلاث سنوات ، لأن الله جعله أسوةً حسنة أذاقه كل شيء ؛ أذاقه موت الولد ، أذاقه فقد الزوجة ، أذاقه زوجةً تكبره بخمسة عشر عاماً ، أذاقه زوجةً صغيرة ، أذاقه هجرةً من بلده إلى بلدٍ آخر ، أذاقه موت أبيه ، أذاقه موت أمه ، حينما قال الله عزَّ وجل :
( سورة الأحزاب : من آية " 21 " )
لولا أن الله أذاقه كل شيء لما كان أسوةً لنا في كل شيء ، أذاقه الفقر . " هل عندكم شيء ؟ " قالوا : " لا " . قال : " فإني صائم " .
( من الموطأ : عن " السيدة عائشة " )
أذاقه الغنى . " لمن هذا الوادي ؟ " هو لك " ، قال : أشهد أنك رسول الله .
أذاقه القهر في الطائف .. ((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي)) .
( من الجامع الصغير : عن " عبد الله بن جعفر " )
أذاقه النصر في فتح مكة .. ((ما تظنون أني فاعل بكم ؟ . قالوا : أخٌ كريم وابن عمٍ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء)) .
( من الجامع الصغير : عن " أنس بن مالك " )
النبي عليه الصلاة والسلام تحمَّل من قريش أشدَّ الأذى ، ولا سيما بعد وفاة عمه أبي طالب ، وبعد وفاة زوجته السيدة خديجة ، الزوجة سكن.
أدركت هذه الصحابية الجليلة ما يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الشدائد والهموم ، فأرادت أن تخفف عنه بعد ذلك بإيجاد أنيسٍ في بيته .
إخواننا الكرام ... هناك تعليق لطيف ، هذا الذي يستخف بزوجته ، ويحلف عليها بالطلاق لأتفه الأسباب ، أو يطردها من البيت ، أو يعاملها معاملةً قاسية ، أو يسب أباها وأمها ، أو يهينها ، ماذا يفعل هذا الإنسان ؟ يكفر بنعمة الزوجة ـ الزوجة نعمة ـ يكفر بأشد النعم لصوقاً بالزوج.
وهذه المرأة التي تستخف بزوجها ، يحلف عليها يمينًا فتنقضه ، يأمرها فلا تطيعه ، يهددها فتتحدَّاه ، هذه امرأةٌ أيضاً تكفر بنعمة الزوج .. ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ)) .
( من مسند أحمد : عن " ثوبان " )
((لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)) .
((إني أكره المرأة تخرج من بيتها تشتكي على زوجها)) .
فالمرأة إذا رعت نعمة الزوج ، والزوج إذا رعى نعمة الزوجة كانت حياتهما سعيدة ، لذلك أنا من خلال ما يُعرض علي من قضايا ومشكلات بين الزوجين ، أعجب أشدَّ العجب ، يحلف عليها يميناً بالطلاق ألاّ تزور أختها ، لا يحلو لها إلا أن تكسر يمينه ، وتتحدَّاه ، وتزور أختها ، تجلس عندها ساعة ، وقع الطلاق ، يتحرَّك الزوج من شيخٍ إلى شيخ من أجل فتوى ، ماذا أفعل ؟
لهذه الدرجة زوجكٍ هينٌ عليكٍ ، حلف عليكٍ ألاّ تزوري أختكِ ، ماذا يمنع أن تنفذي أمره ؟ ماذا يمنع أن تمتنعي عن زيارة أختكِ ؟ الشيء العجيب بين كل مئة يمين طلاقٍ طلاقٌ مقيَّد غير مُطلق ، أي يقول : إن فعلت كذا فأنتِ طالق ، بين كل مئة طلاق تسعة وتسعين بالمئة من النساء اللواتي يحلف أزواجهن عليهن يمين طلاق ينقضنه ، هذا كفرٌ بنعمة الزوج.
لماذا جعل الله الطلاق بيد الرجل ؟ لأن المرأة عاطفيَّة ، لسببٍ تافهٍ تطلب الطلاق ، لكن الزوج يجب أن يفكِّر في الطلاق بعد دراسة طويلة جداً ، وبعد بحث .
تتم الخطبة ، ويعقد الزواج ، ويروي الطبري عن هذا الزواج الشيء الكثير ، تُزَّف العروس الوقور إلى أحبِّ الناس إليها ، لتخفِّف آلام الفُرقة عن نفسه الشريفة ، ولتملأ بيته أُنساً بعد وحشة ، ولتحمل معه بعض أعباء الحياة ، ولتقوم ببعض ما كانت تقوم به الزوجة الراحلة العزيزة خديجة ، لقد كانت أم المؤمنين سودة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة .
فالأمر قصير ، الدُعابة ، واللطف ، والطُرفة ، والوجه الطليق ، والبسمة ، والمرح في البيت مطلوب جداً ، فهناك أب إذا دخل على أولاده وعلى أهله كان عندهم عيد ؛ يهَللون ، يفرحون ، يتنافسون ليصلوا إليه ، وهناك أبٌ إذا دخل البيت كان عبئاً على أهل البيت ..
أيها الإخوة ... كن من الأزواج الذين إذا دخلوا بيتهم كانوا مصدر سعادةٍ لأهلهم .
قال : " كانت هذه السيدة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة ، تسخِّر نفسها الراضية المرضية لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وإدخال السرور على نفسه الكريمة " .
الحقيقة أيها الإخوة ، الملاحظ أن المرأة غير المنضبطة ، أن المرأة غير الملتزمة ، أن المرأة المُنقطعة عن الله ، أسوأ ما عندها لزوجها ؛ الكلام القاسي ، والنظرة المتجفِّية ، والهيئة التي لا ترضي ، إهمال شأنه ، إهمال ثيابه ، إهمال زينتها ، قسوة كلامها ، إهمال شؤون زوجها ، فإذا أرادت أن تلتقي بالآخرين ؛ تلطَّفت ، وتزيَّنت ، وتعطَّرت ، ولبست أحسن ثيابها ، وكانت لطيفةً إلى أعلى درجة ، هذه امرأةٌ لا يحبها الله عزَّ وجل ، لأن أسوأ ما فيها لزوجها ، وأحسن ما فيها لغير زوجها .
كانت هذه الزوجة الوفيَّة سودة ، تحاول أن تدخل على قلب النبي صلى الله عليه وسلَّم السرور ، فكانت تغتنم كل مناسبة لتضحكه وتسرَّه ، لعلَّها بذلك تقدِّم بعض الواجبات التي نيطت بالزوجات نحو أزواجهن وأرباب بيوتهن .
من أمثلة ذلك ما رواه ابن سعدٍ عن الأعمش عن إبراهيم قال : قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم : " صلَّيت خلفك الليلة ، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطُر الدم "، يبدو أن النبي أطال الركوع فقالت : " صليت خلفك الليلة فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم " ، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ، وكانت تضحكه بالشيء أحياناً .
قال بعض كُتَّاب السيرة : ربما كانت هذه الزوجة المسعدة لزوجها تمازحه بكلماتٍ ، ويعظها بكلمات ، من ذلك ما رواه ابن المبارك أن سودة قالت : " يا رسول الله إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا أنت "، فقال لها : ((لو تعلمين علم الموت يا بنت زمعة لعلمت أنه أشد مما تقدرين عليه)) .
( من كنز العمال : عن " سودة بنت زُمعة " )
أي نوع من أنواع الدعابة ، نوع من أنواع الطرافة بين الزوج وزوجته .
وقال بعض كُتَّاب السيرة : كانت رضي الله عنها مع حبها للمرح والمزاح كريمة جوادة ، لا يأتيها مالٌ إلا سارعت بإنفاقه على أهل ذي الحاجة .
فقد روي بسندٍ صحيح عن محمدِ بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغرارةٍ من دراهم ـ أي بصرَّة من دراهم ـ فقالت : " ما هذه ؟ " ، قالوا : دراهم ، قالت : " في غرارةٍ مثل التمر !! " ، ففرَّقتها .
أيها الإخوة ... مما يؤثر عن هذه الزوجة الفاضلة ، أنها كانت حريصةً كل الحرص على إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وتكريمه ، فكانت إذا مازحته لم تُقَلل ذلك من هيبتها له وتوقيرها إياه شيئاً.
بالمناسبة أنا لا أتمنى أن ترفع الكلفة بين الزوجين أبداً ، إنْ رُفعت كلياً شقي الزوجان ، لابدَّ من حدٍ أدنى من الكلفة بين الزوجين ، أما إذا رفعت الكلفة واستباح كل طرفٍ أن يكثر المزاح مع الطرف الآخر حيث يقلل من هيبته ، كانت مشكلة .
قال : كانت إذا مازحته صلى الله عليه وسلَّم لم يقلل ذلك من هيبتها له وتوقيرها إياه شيئاً .
والحقيقة المزاح كالملح في الطعام ، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالذي يمزح ينبغي أن يمسك بميزانٍ دقيقٍ جداً ، إنه إن أكثر المزاح فقد هيبته ، وهناك مزاح يجرح ، ومزاح فيه إهانة ، ومزاح مؤلم ، هناك مزاح ، لكنه قليل ونادر ؛ لا يؤذي أبداً ، ولا يجرح ، ولا يُهين ، ولا يحجِّم ، ولا يخجل ، هذا هو المزاح المسموح به ، هناك من يمزح مع زوجته بالانتقاص من شكلها ، بإبراز عيوبها ، بتكبير عيوبها ، بالتعريض بأهلها، هذا ليس مزاحاً ، بل هذا هدمٌ للعلاقات بين الزوجين .
في صفة لطيفة بهذه الزوجة ، أنها كانت إذا أخطأت عادت سريعاً إلى صوابها ، تقول السيدة عائشة : " إذا أصابتها الحِدَّة فاءت سريعاً فتصلح نفسها مما نابها " .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ((مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ قَالَتْ فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ)).
(مسلم)
أي حينما تخطئ تسارع إلى الإصلاح .
هذه الزوجة الكريمة تعلَّقت برسول الله صلى الله عليه وسلَّم تعلُّق كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ به ، إذ أرسله الله رحمةً للعالمين ، وزادها تعلقاً به صلى الله عليه وسلَّم ما رأته من رؤيا صادقة ، كانت قد رأت في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أقبل يمشي حتى وطئ على عُنقها ، فأُوِّلَت لها هذه الرؤيا بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلَّم منها .
ثم رأت في المنام ليلةً أخرى كأن قمراً انقضَّ عليها من السماء وهي مُضَّجعة ، فكانت هذه الرؤيا تأكيداً لزواجه صلى الله عليه وسلَّم منها .
بعد ذلك أصبحت سودة زوجةً لرسول الله ، أرضاها الزواج كل الرضا أن تأخذ مكانها الرفيع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وأن تخدم بناته الكريمات .
أيها الإخوة ... هناك نقطة دقيقة جداً في هذا الزواج ، كان رضاها برسول الله زوجاً يغمرها سعادةً وهناءً ، فلا تراها إلا وبهجة السرور تعلو وجهها الكريم ، كان يسعدها أن ترى النبي صلى الله عليه وسلَّم يبتسم من مشيتها المُتمايلة من ثِقل جسمها ، فوق ما كان يأنس عليه الصلاة والسلام إلى ملاحة نفسها وخفة ظلها ، حينما تسمعه عباراتٍ من مزاحها ـ يبدو أن اللحم ركبها ، فكانت إذا مشت أمامه تمايلت يمنةً ويسرة ، فكان عليه الصلاة والسلام يتبسَّم من مشيتها ـ وظلَّت هذه الزوجة الصالحة بهذه النفس الرضيَّة ، تقوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم طيلة وجودها في مكة .
وبعد أن هاجر النبي إلى المدينة هاجرت هي أيضاً إليها ، وبقيت هي الراعية لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة ، إلى أن جاءت عائشة بنت أبي بكرٍ زوجةً للرسول وأُماً للمؤمنين .
طبعاً لمجرَّد أن تكون المرأة زوجةً لرسول الله ، هذا شرفٌ عظيم ، وهذا مقامٌ كريم ، وهذه مرتبةٌ عالية تتقطَّع دون بلوغها أعناق الطامحين ، فشيء كبير جداً أن تكون امرأةٌ أُم المؤمنين ، أن تكون امرأةٌ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
لكن هذه المرأة المسنَّة الكبيرة ، التي عندها خمسة صبية ، كانت تعلم أنها لا تُرضي النبي بشكلها ، لكنها ارتقت إلى مستوىً رفيع تطمح إليه، بحكمتها ولذكائها أفسحت للعروس الشابَّة ـ السيدة عائشة ـ المكان الأول في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وحرصت أشد الحرص أن تتحرَّى مرضاة العروس الجديدة ، وأن تقوم على خدمتها ، وأن تسهر على راحتها .
أرأيت إلى هذا الوفاء ؟ هذه حكمة ، هي نالت مبتغاها من زواجها من النبي ؛ أصبحت أم المؤمنين ، أصبحت زوجة رسولٍ كريم ، هذه الشابَّة التي تزوَّجها تحتاج إلى رعاية ، تحتاج إلى عناية ، اعتنت بها ، وخدمتها ، وأرشدتها ، وعلَّمتها ، وبيَّنت لها كي تُرضي رسول الله ، وكي تُرضي عائشة رسول الله ، وكي يرضى رسول الله عن سودة بهذه الخدمة.
ثم خصَّ عليه الصلاة والسلام كل زوجةٍ ببيتٍ خاص ، ولمَّا وفدت زوجاتٌ أُخريات على بيوتات النبي فيهن حفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، وسواهن ، لم تتردَّد أم المؤمنين سودة في إيثار عائشة بإخلاصها ، ومودتها، وإن لم تظهر ضيقاً بتلك الزوجات .
فالآن ماذا نستفيد من هذه القصَّة ؟ امرأة متقدِّمة في السن ، لم تنجب أولاداً ، زوجها محروم من الأولاد ، فأراد زوجها أن يتزوج امرأةً تنجب له أولاداً ، دون أن يضحي بها ، دون أن يتخلَى عنها ، هي في مكانتها الرفيعة العليَّة ، هناك زوجاتٌ لا يرضَين بذلك ، ويبتعدن عن أزواجهن ، ويعشن وحدهن ، هل هذا هو العقل ؟ هذا موقف .
هي نالت مبتغاها ، أفسحت المجال للسيدة عائشة وخدمتها ورعتها ، فهذه الزوجة كما قال كُتَّاب السير لم تكن ترضى لنفسها أن تعيش بعيدةً عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد تعلَّقت به تعلُّقاً كبيراً ، وأحبته حباً كثيراً ، فلما بلغها ذلك ، أي بلغها ؛ أولادها الخمسة ، وزوجاته أصبحن كثيرات ، كأنها شعرت أنها عبءٌ على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكأنها تحول بينه وبين سعادته ، هذا الإدراك الدقيق جداً ؛ أن تفهم الأمور على حقيقتها، فقد دنى منها النبي عليه الصلاة والسلام ، فبكت ، قالت : " يا رسول الله هل غمصت عليَّ في الإسلام ؟ " ـ أي هل أخطأت في الإسلام ؟ ـ قال : "اللهمَّ لا " ، قالت : " يا رسول الله يومي لعائشة في رضاك "، أي أنا أريد أن أبقى زوجةً لك ، أريد أن أحظى هذا الشرف العظيم ولا مأرب لي في الرجال . " يومي لعائشة في رضاك ، أريد أن أبقى معك لأنظر إلى وجهك ، فوالله ما بي ما تريد النساء ولكني أحب أن يبعثني الله في نسائك يوم القيامة " ، أي أنا كل مطلبي أن أنظر إليك ، أن أكحِّل عيني بمرآك ، وأن أكون زوجتك هكذا إلى يوم القيامة لأحظى بهذا الشرف ، فهي شعرت أنها عبء ، وأنها تحول بينه وبين سعادته ، وأنه تزوجها جبراً لخاطرها ، وأنها مصبية ـ عندها خمسة صبيان ـ وحينما توهَّمت أنها إذا تركت رسول الله تسعده بتركها ندمت ، قالت : " لا أنا أبقى معك ولكن يومي لعائشة " .
والنبي بالعدل ، كلكم يعلم أن التعدد من شروطه العدل التام بين الزوجات ، العدل في الإنفاق ، والعدل في السُكنى ، والعدل في المبيت ، أما حينما هي تسامح عن طيب خاطر قالت : " يومي لعائشة " ، وهكذا حافظت أم المؤمنين سودة على ودِّها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وعلى قُربها منه ، وعلى صحبته في الدنيا والآخرة .
لقد عاشت رضي الله عنها في كَنَف النبي صلى الله عليه وسلَّم حتى توفي عنها وعن زوجاته الأُخريات ، وطال بها العمر ، حتى توفيت في آخر زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد ظلَّت عائشة أم المؤمنين تذكر سودة حسن صنيعها ، وتؤثرها بجميل الوفاء والثناء الحسن في حياتها وبعد مماتها .
فالعقل بالمرأة شيء رائع جداً ، امرأة حكيمة عاقلة ، تعرف حدودها، تعرف حجمها ، تعرف إمكاناتها ، لا تكن عبئاً على زوجها ، همها إرضاء زوجها ، همها إدخال السرور علىقلبه ، هكذا كانت السيدة سودة بنت زُمعة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها ، وجعلها قدوةً لنساء المسلمين.
والحمد لله رب العالمين
جزى الله كاتبه وناقله خير الجزاء
* * *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس التاسع من دروس الصحابيات الجليلات ، مع أمهات المؤمنين ، مع زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الثانية ، التي كانت بعد خديجة وقبل عائشة ، مع أم المؤمنين سودة بنت زُمعة ، هذه الزوجة التي تزوَّجها النبي عليه الصلاة والسلام لحكمةٍ سوف نقف عليها من خلال سيرتها .
هذه الزوجة الطاهرة أسلمت بمكة قديماً ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، وينبغي أن نتصور ما معنى أن يترك الإنسان بلده التي ولد فيه ؟ ما معنى أن يدع الإنسان مسقط رأسه ؛ لسببٍ بسيط ، لمضايقةٍ يسيرة ، لضغطٍ خفيف أم لشيءٍ لا يحتمل ، شيءٍ لا يطاق ؟ .
أيها الإخوة ... الصحابة الكرام الذين أسلموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذكوراً وإناثاً ، في أول الدعوى الإسلامية لهم عند الله مقامٌ كبير ، لأنهم تحمَّلوا ، وتحملوا الشيء الكثير ، حتى إن الهجرة إلى الحبشة كانت متنفَّساً لهم من شدة الضغط الذي تحمَّلوه .
لو أن أحدنا سأل نفسه هذا السؤال : هل تحمَّل واحد بالمليار مما تحمَّله الصحابة ؟ تدخل إلى المسجد ؛ تصلي ، وتحضر درس علم ، وتقرأ القرآن ، وتعود إلى بيتك آمناً ، تصلي قيام الليل إذا شئت ، لا أحد يعترضك ، تفعل في بيتك ما تشاء ، لا أحد يأخذ عليك أنك مسلم ، ماذا ذاق المسلمون في جنب ما ذاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟
أسلمت بمكة قديماً ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، ومات زوجها هناك ، وقد ورد أنه ما عُبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر ، الإنسان أحياناً يتزوج امرأةً لجمالها ، وقد يتزوّجها لمالها ، وقد يتزوجها لدينها ، وقد يتزوجها جبراً لخاطرها .
هذه الزوجة الطاهرة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحاديث كثيرة ، وروى عنها ابن عباس ، وتوفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب ، فمن التي خطبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ خطبتها خولة بنت حكيم ، المرأة نفسُها التي خطبت السيدة خديجة لرسول الله ـ قبل ربع قرن ـ هي نفسها ، يروي الإمام الطبري في تاريخه أنّ خولة بنت حكيم قالت : " يا رسول الله ألا تتزوج ؟ " . النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
إخواننا الكرام ... الزواج جبر ، فتاة ، طاهرةٌ ، عفيفةٌ تنتظر زوجاً، تنتظر أن يطرق بابها خاطب ، هكذا خلقها الله عزَّ وجل ، جعل فيها دافع الأمومة ـ دققوا - أقوى دافعٍ في الجنس البشري - دافع الأمومة - الفتاة أحياناً بخلاف ما تتصورون ، طلبها للزواج ليس كطلب الزوج للزواج ، شهوة الرجل حسيَّة ؛ لكن المرأة رغبتها في الزواج أن تكون أماً، أن يخطبها خاطب ، إذاً هي مرغوبٌ فيها ، إذاً هي مطلوبة ، لذلك : ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
جميل جداً أن تتعرَّف إلى إخوانك ، هذا الأخ عنده بنات ، فإن رأيت شابًا مؤمناً مستقيماً ، طاهراً عفيفاً ، دللته على امرأةٍ طيبةٍ طاهرةٍ عفيفة هذا أعظم عملٍ تفعله .. ((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح)) .
( من الجامع الصغير : عن " أبي رهم " )
قال تعالى :
(النساء : من الآية 85)
"يا رسول الله ألا تتزوج ؟ " ، قالت هذا الكلام بعد وفاة السيدة خديجة بثلاث سنوات ، معنى ذلك النبي عاش وحيداً ، والأزواج يعرفون ؛ المرأة سكنٌ لزوجها ، ومن أصعب الحالات أن يفقد الرجل زوجته ، والنبي عليه الصلاة والسلام بموت السيدة خديجة فقد الدَعم الداخلي ، وبموت عمِّه أبي طالب فَقَدَ الدَعم الخارجي ، في زمنٍ قصير فَقَدَ نصيره خارج البيت ، وفَقَدَ نصيره داخل البيت ، إذاً ذاق النبي الوحدة ، ذاق الوحشة ، ذاق موت النصير ، ذاق موت القريب ، ذاق موت أحب الناس إليه .. ((إن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، منزل ترحٍ لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى)) .
فقال عليه الصلاة والسلام : " ومن ؟ " ، هناك أشخاص مترفِّعون ، عندهم كبر ، أحياناً تعرض على إنسان عملاً ، لا أحب العمل ، لا أعمل ، لا أوافق ، قبل أن يفهم ، تعلَّم هذا الأدب ، قال : " ومن ؟ " قالت : " إن شئت بكراً وإن شئت ثيِّباً " ، قال : " فمن البكر " ، قالت : " ابنة أحب خلق الله إليك ، عائشة بنت أبي بكر " ، إن أردت بكراً ، قال : " ومن الثيِّب " ، قالت : " سودة بنت زُمعة قد آمنت بك ، واتبعتك على ما أنت عليه " .
نقطة دقيقة ... الإنسان يتزوج ، هذه الزوجة أقرب الناس إليك ، إن لم تكن على شاكلتك ، إن لم تؤمن بما تؤمن ، إن لم توقِّر ما توقِّر ، إن لم ترجو ما ترجو ، إن لم تكن على الشكل الذي يرضيك ، كيف تعيش معها ؟ فهذا الذي يذهب إلى بلاد الغرب ، ويقترن بامرأة راق له شكلُها ، لكن أهلها ؛ طباعهم ، عاداتهم ، تقاليدهم ، قيمهم ، مبادئهم ، ديانتهم ، فكيف تستطيع العيش معها ؟
فما من علاقة أقرب من الزوج إلى زوجته ، يسمونها علاقة حميمة ، أي أنها علاقة من أعلى درجات العلاقات ، أيعقل أن تكون زوجتك على غير شاكلتك ، تؤمن بما لا تؤمن ، أو تكفر بما تؤمن ، تحب ما لا تحب ، ترضى بما لا يرضيك ؟!! مستحيل .
قالت : " آمنت بك يا رسول الله واتبعتك على ما أنت عليه " . قال : ((فاذهبي فاذكريها علي)) .
( من مجمع الزوائد : عن " خولة بنت حكيم " )
أي اخطبيها لي ، فجاءت فدخلت بيت أبي بكر قالت : ثم خرجت فدخلت على سودة فقالت : " أي سودة ـ أي يا سودة ـ ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة ؟! " ، فقياساً على ذلك إذا كان طالب العلم إنسانًا ملتزمًا ، مؤمنًا يحب الله ورسوله ، يخشى الله ، يُرضي الله ، يتحرَّى الدخل الحلال ، إنفاقه حلال ، جوارحه مضبوطة ، هذا إذا خطب ينبغي ألا يتردد في الموافقة عليه ، هذا مكسبٌ كبير ، طالب العلم كفءٌ لأيَّة فتاةٍ على الإطلاق .
" أي سودة ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة ؟ " ، قالت : " وما ذاك ؟ " ، قالت : " أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يخطبكِ عليه" ، فقالت : " وددت " ، أي والله أتمنى ، أرأيت هذا الأدب أيضاً ؟ في إنسان تعرض عليه شيء يتأبَّى ، ومن الداخل يذوب شوقاً إليه ، لكنه يتأبَّى لكبرٍ فيه ، قالت : " وددت ادخلي على أبي فاذكري له ذلك " .
قالت : " وهو شيخٌ كبير ، فدخلت عليه ، فحييته بتحية الجاهلية ، ثم قلت : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة " ، قال: " كفءٌ كريم " .
نقطة دقيقة ، جاءته الرسالة ، لو أن الناس يعلمون عنه شيئاً في الجاهلية قبل الإسلام لذكروه بصوتٍ عالٍ ، الأنبياء معصومون قبل النبوة ، لا يستطيع أحدٌ أن يتكلَّم عنهم كلمة ، قال : " كفءٌ كريم ، فماذا تقول صاحبته ـأي مخطوبته ـ " ، قالت : " تحب ذلك " ، قال : " ادعيها لي " ، فدُعيت له .
قال أبوها : " أي سودة ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبكِ ، وهو كفء كريم ، أفتحبين أن أزوِّجْكِهِ ؟ " قالت : "نعم " ، قال : " فادعيه لي " ، فدعته ، فجاء فزوجه .
طبعاً صاحب الحاجة هو الذي يأتي ، هذا أدب أيضاً ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبيها ، وخطبها منه ، وتزوجها .
يروي الحافظ ابن كثير والإمام أحمد في المسند محاورةً جرت في هذا الموضوع ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهَا سَوْدَةُ وَكَانَتْ مُصْبِيَةً ـ أي لها صبيان ـ كَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَةٍ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ - هناك من يدَّعي ، ومن يتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان مغرماً بالنساء ، هذه امرأةٌ متقدمةٌ في السن ، عندها خمسة أولاد ، مُصْبِيَة - فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي قَالَتْ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِيَّةِ إِلَيَّ وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةَ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً - أي أن يمنعوا راحتك ، خمسة أولاد ، كان قدوةً عليه الصلاة والسلام ، امرأةٌ مسنَّة يتزوجها ، وعندها خمسة أولاد ، هي نفسها خافت أن تزعج النبي عليه الصلاة والسلام ، هي نفسها خافت أن يكون أولادها عبئاً على النبي عليه الصلاة والسلام - قَالَ فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُكِ اللَّهُ إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ)) .
( من مسند الإمام أحمد : عن " عبد الله بن عباس " )
فالإنسان إذا تقدَّم في السن تكثُر حاجاته ، لذلك الزوجات الطاهرات المخلصات هنَّ اللواتي يضاعفن من خدمة أزواجهن إذا تقدَّمت بهم العمر ، طبعاً حينما يكون شاباً يخدمنه خدمةً عالية ، أما إذا تقدَّمت به السن ضعفت الخدمة ، فقال عليه الصلاة والسلام (إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ)) .
( من مسند الإمام أحمد : عن " عبد الله بن عباس " )
أي خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها .
هناك مشكلتان في بيوت المسلمين ؛ الأولى أن الزوجة تعتني بزوجها عنايةً فائقة وتهمل أولادها ، تدعهم في الطُرقات ، ثيابهم غير نظيفة ، أعمالهم غير مرتَّبة ، دراستهم متخلِّفة ، لكنها تعتني بزوجها لأنه مصدر سعادتها ، هذا مرض .
المرض الثاني تعتني الزوجة بأولادها على حساب زوجها ، تهمله ؛ تهمل طعامه ، وشرابه ، وثيابه ، كل همها لأولادها ، هذا خطأ وهذا خطأ، هذا تطرُّف وذاك تطرُّف ، خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها ، وقد لا تصدقون أن المرأة التي تحسن تبعُّل زوجها هذا العمل يعدل الجهاد في سبيل الله ، ولكن من هي هذه المرأة التي تتفهَّم هذا الحديث الصحيح الذي رواه النبي عليه الصلاة والسلام : ((انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله)) ، أي الجهاد في سبيل الله .
( من كنز العمال : عن : أسماء بنت يزيد " )
كُتَّاب السيرة يقولون : " خولة بنت حكيم هذه لم تكن تستطيع أن تكون جريئةً إلى هذا الحد ، لأنها تدخَّلت في أخصَّ خصوصيَّات النبي عليه الصلاة والسلام ، تدخَّلت في حياته الشخصيَّة ، لولا أنها رأت من الوَحشة التي خيَّمت على بيت النبي بوفاة الزوجة الصديقة العزيزة الغالية .
بصراحة الزوجة الصادقة ، الوفيَّة ، الصالحة موتها يهدُّ أركان البيت، والزوج الصالح الوفي موته يهدُّ أركان البيت ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذاق فقد الزوجة ثلاث سنوات ، لأن الله جعله أسوةً حسنة أذاقه كل شيء ؛ أذاقه موت الولد ، أذاقه فقد الزوجة ، أذاقه زوجةً تكبره بخمسة عشر عاماً ، أذاقه زوجةً صغيرة ، أذاقه هجرةً من بلده إلى بلدٍ آخر ، أذاقه موت أبيه ، أذاقه موت أمه ، حينما قال الله عزَّ وجل :
( سورة الأحزاب : من آية " 21 " )
لولا أن الله أذاقه كل شيء لما كان أسوةً لنا في كل شيء ، أذاقه الفقر . " هل عندكم شيء ؟ " قالوا : " لا " . قال : " فإني صائم " .
( من الموطأ : عن " السيدة عائشة " )
أذاقه الغنى . " لمن هذا الوادي ؟ " هو لك " ، قال : أشهد أنك رسول الله .
أذاقه القهر في الطائف .. ((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي)) .
( من الجامع الصغير : عن " عبد الله بن جعفر " )
أذاقه النصر في فتح مكة .. ((ما تظنون أني فاعل بكم ؟ . قالوا : أخٌ كريم وابن عمٍ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء)) .
( من الجامع الصغير : عن " أنس بن مالك " )
النبي عليه الصلاة والسلام تحمَّل من قريش أشدَّ الأذى ، ولا سيما بعد وفاة عمه أبي طالب ، وبعد وفاة زوجته السيدة خديجة ، الزوجة سكن.
أدركت هذه الصحابية الجليلة ما يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الشدائد والهموم ، فأرادت أن تخفف عنه بعد ذلك بإيجاد أنيسٍ في بيته .
إخواننا الكرام ... هناك تعليق لطيف ، هذا الذي يستخف بزوجته ، ويحلف عليها بالطلاق لأتفه الأسباب ، أو يطردها من البيت ، أو يعاملها معاملةً قاسية ، أو يسب أباها وأمها ، أو يهينها ، ماذا يفعل هذا الإنسان ؟ يكفر بنعمة الزوجة ـ الزوجة نعمة ـ يكفر بأشد النعم لصوقاً بالزوج.
وهذه المرأة التي تستخف بزوجها ، يحلف عليها يمينًا فتنقضه ، يأمرها فلا تطيعه ، يهددها فتتحدَّاه ، هذه امرأةٌ أيضاً تكفر بنعمة الزوج .. ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ)) .
( من مسند أحمد : عن " ثوبان " )
((لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)) .
((إني أكره المرأة تخرج من بيتها تشتكي على زوجها)) .
فالمرأة إذا رعت نعمة الزوج ، والزوج إذا رعى نعمة الزوجة كانت حياتهما سعيدة ، لذلك أنا من خلال ما يُعرض علي من قضايا ومشكلات بين الزوجين ، أعجب أشدَّ العجب ، يحلف عليها يميناً بالطلاق ألاّ تزور أختها ، لا يحلو لها إلا أن تكسر يمينه ، وتتحدَّاه ، وتزور أختها ، تجلس عندها ساعة ، وقع الطلاق ، يتحرَّك الزوج من شيخٍ إلى شيخ من أجل فتوى ، ماذا أفعل ؟
لهذه الدرجة زوجكٍ هينٌ عليكٍ ، حلف عليكٍ ألاّ تزوري أختكِ ، ماذا يمنع أن تنفذي أمره ؟ ماذا يمنع أن تمتنعي عن زيارة أختكِ ؟ الشيء العجيب بين كل مئة يمين طلاقٍ طلاقٌ مقيَّد غير مُطلق ، أي يقول : إن فعلت كذا فأنتِ طالق ، بين كل مئة طلاق تسعة وتسعين بالمئة من النساء اللواتي يحلف أزواجهن عليهن يمين طلاق ينقضنه ، هذا كفرٌ بنعمة الزوج.
لماذا جعل الله الطلاق بيد الرجل ؟ لأن المرأة عاطفيَّة ، لسببٍ تافهٍ تطلب الطلاق ، لكن الزوج يجب أن يفكِّر في الطلاق بعد دراسة طويلة جداً ، وبعد بحث .
تتم الخطبة ، ويعقد الزواج ، ويروي الطبري عن هذا الزواج الشيء الكثير ، تُزَّف العروس الوقور إلى أحبِّ الناس إليها ، لتخفِّف آلام الفُرقة عن نفسه الشريفة ، ولتملأ بيته أُنساً بعد وحشة ، ولتحمل معه بعض أعباء الحياة ، ولتقوم ببعض ما كانت تقوم به الزوجة الراحلة العزيزة خديجة ، لقد كانت أم المؤمنين سودة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة .
فالأمر قصير ، الدُعابة ، واللطف ، والطُرفة ، والوجه الطليق ، والبسمة ، والمرح في البيت مطلوب جداً ، فهناك أب إذا دخل على أولاده وعلى أهله كان عندهم عيد ؛ يهَللون ، يفرحون ، يتنافسون ليصلوا إليه ، وهناك أبٌ إذا دخل البيت كان عبئاً على أهل البيت ..
أيها الإخوة ... كن من الأزواج الذين إذا دخلوا بيتهم كانوا مصدر سعادةٍ لأهلهم .
قال : " كانت هذه السيدة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة ، تسخِّر نفسها الراضية المرضية لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وإدخال السرور على نفسه الكريمة " .
الحقيقة أيها الإخوة ، الملاحظ أن المرأة غير المنضبطة ، أن المرأة غير الملتزمة ، أن المرأة المُنقطعة عن الله ، أسوأ ما عندها لزوجها ؛ الكلام القاسي ، والنظرة المتجفِّية ، والهيئة التي لا ترضي ، إهمال شأنه ، إهمال ثيابه ، إهمال زينتها ، قسوة كلامها ، إهمال شؤون زوجها ، فإذا أرادت أن تلتقي بالآخرين ؛ تلطَّفت ، وتزيَّنت ، وتعطَّرت ، ولبست أحسن ثيابها ، وكانت لطيفةً إلى أعلى درجة ، هذه امرأةٌ لا يحبها الله عزَّ وجل ، لأن أسوأ ما فيها لزوجها ، وأحسن ما فيها لغير زوجها .
كانت هذه الزوجة الوفيَّة سودة ، تحاول أن تدخل على قلب النبي صلى الله عليه وسلَّم السرور ، فكانت تغتنم كل مناسبة لتضحكه وتسرَّه ، لعلَّها بذلك تقدِّم بعض الواجبات التي نيطت بالزوجات نحو أزواجهن وأرباب بيوتهن .
من أمثلة ذلك ما رواه ابن سعدٍ عن الأعمش عن إبراهيم قال : قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم : " صلَّيت خلفك الليلة ، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطُر الدم "، يبدو أن النبي أطال الركوع فقالت : " صليت خلفك الليلة فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم " ، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ، وكانت تضحكه بالشيء أحياناً .
قال بعض كُتَّاب السيرة : ربما كانت هذه الزوجة المسعدة لزوجها تمازحه بكلماتٍ ، ويعظها بكلمات ، من ذلك ما رواه ابن المبارك أن سودة قالت : " يا رسول الله إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا أنت "، فقال لها : ((لو تعلمين علم الموت يا بنت زمعة لعلمت أنه أشد مما تقدرين عليه)) .
( من كنز العمال : عن " سودة بنت زُمعة " )
أي نوع من أنواع الدعابة ، نوع من أنواع الطرافة بين الزوج وزوجته .
وقال بعض كُتَّاب السيرة : كانت رضي الله عنها مع حبها للمرح والمزاح كريمة جوادة ، لا يأتيها مالٌ إلا سارعت بإنفاقه على أهل ذي الحاجة .
فقد روي بسندٍ صحيح عن محمدِ بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغرارةٍ من دراهم ـ أي بصرَّة من دراهم ـ فقالت : " ما هذه ؟ " ، قالوا : دراهم ، قالت : " في غرارةٍ مثل التمر !! " ، ففرَّقتها .
أيها الإخوة ... مما يؤثر عن هذه الزوجة الفاضلة ، أنها كانت حريصةً كل الحرص على إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وتكريمه ، فكانت إذا مازحته لم تُقَلل ذلك من هيبتها له وتوقيرها إياه شيئاً.
بالمناسبة أنا لا أتمنى أن ترفع الكلفة بين الزوجين أبداً ، إنْ رُفعت كلياً شقي الزوجان ، لابدَّ من حدٍ أدنى من الكلفة بين الزوجين ، أما إذا رفعت الكلفة واستباح كل طرفٍ أن يكثر المزاح مع الطرف الآخر حيث يقلل من هيبته ، كانت مشكلة .
قال : كانت إذا مازحته صلى الله عليه وسلَّم لم يقلل ذلك من هيبتها له وتوقيرها إياه شيئاً .
والحقيقة المزاح كالملح في الطعام ، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالذي يمزح ينبغي أن يمسك بميزانٍ دقيقٍ جداً ، إنه إن أكثر المزاح فقد هيبته ، وهناك مزاح يجرح ، ومزاح فيه إهانة ، ومزاح مؤلم ، هناك مزاح ، لكنه قليل ونادر ؛ لا يؤذي أبداً ، ولا يجرح ، ولا يُهين ، ولا يحجِّم ، ولا يخجل ، هذا هو المزاح المسموح به ، هناك من يمزح مع زوجته بالانتقاص من شكلها ، بإبراز عيوبها ، بتكبير عيوبها ، بالتعريض بأهلها، هذا ليس مزاحاً ، بل هذا هدمٌ للعلاقات بين الزوجين .
في صفة لطيفة بهذه الزوجة ، أنها كانت إذا أخطأت عادت سريعاً إلى صوابها ، تقول السيدة عائشة : " إذا أصابتها الحِدَّة فاءت سريعاً فتصلح نفسها مما نابها " .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ((مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ قَالَتْ فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ)).
(مسلم)
أي حينما تخطئ تسارع إلى الإصلاح .
هذه الزوجة الكريمة تعلَّقت برسول الله صلى الله عليه وسلَّم تعلُّق كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ به ، إذ أرسله الله رحمةً للعالمين ، وزادها تعلقاً به صلى الله عليه وسلَّم ما رأته من رؤيا صادقة ، كانت قد رأت في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أقبل يمشي حتى وطئ على عُنقها ، فأُوِّلَت لها هذه الرؤيا بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلَّم منها .
ثم رأت في المنام ليلةً أخرى كأن قمراً انقضَّ عليها من السماء وهي مُضَّجعة ، فكانت هذه الرؤيا تأكيداً لزواجه صلى الله عليه وسلَّم منها .
بعد ذلك أصبحت سودة زوجةً لرسول الله ، أرضاها الزواج كل الرضا أن تأخذ مكانها الرفيع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وأن تخدم بناته الكريمات .
أيها الإخوة ... هناك نقطة دقيقة جداً في هذا الزواج ، كان رضاها برسول الله زوجاً يغمرها سعادةً وهناءً ، فلا تراها إلا وبهجة السرور تعلو وجهها الكريم ، كان يسعدها أن ترى النبي صلى الله عليه وسلَّم يبتسم من مشيتها المُتمايلة من ثِقل جسمها ، فوق ما كان يأنس عليه الصلاة والسلام إلى ملاحة نفسها وخفة ظلها ، حينما تسمعه عباراتٍ من مزاحها ـ يبدو أن اللحم ركبها ، فكانت إذا مشت أمامه تمايلت يمنةً ويسرة ، فكان عليه الصلاة والسلام يتبسَّم من مشيتها ـ وظلَّت هذه الزوجة الصالحة بهذه النفس الرضيَّة ، تقوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم طيلة وجودها في مكة .
وبعد أن هاجر النبي إلى المدينة هاجرت هي أيضاً إليها ، وبقيت هي الراعية لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة ، إلى أن جاءت عائشة بنت أبي بكرٍ زوجةً للرسول وأُماً للمؤمنين .
طبعاً لمجرَّد أن تكون المرأة زوجةً لرسول الله ، هذا شرفٌ عظيم ، وهذا مقامٌ كريم ، وهذه مرتبةٌ عالية تتقطَّع دون بلوغها أعناق الطامحين ، فشيء كبير جداً أن تكون امرأةٌ أُم المؤمنين ، أن تكون امرأةٌ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
لكن هذه المرأة المسنَّة الكبيرة ، التي عندها خمسة صبية ، كانت تعلم أنها لا تُرضي النبي بشكلها ، لكنها ارتقت إلى مستوىً رفيع تطمح إليه، بحكمتها ولذكائها أفسحت للعروس الشابَّة ـ السيدة عائشة ـ المكان الأول في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وحرصت أشد الحرص أن تتحرَّى مرضاة العروس الجديدة ، وأن تقوم على خدمتها ، وأن تسهر على راحتها .
أرأيت إلى هذا الوفاء ؟ هذه حكمة ، هي نالت مبتغاها من زواجها من النبي ؛ أصبحت أم المؤمنين ، أصبحت زوجة رسولٍ كريم ، هذه الشابَّة التي تزوَّجها تحتاج إلى رعاية ، تحتاج إلى عناية ، اعتنت بها ، وخدمتها ، وأرشدتها ، وعلَّمتها ، وبيَّنت لها كي تُرضي رسول الله ، وكي تُرضي عائشة رسول الله ، وكي يرضى رسول الله عن سودة بهذه الخدمة.
ثم خصَّ عليه الصلاة والسلام كل زوجةٍ ببيتٍ خاص ، ولمَّا وفدت زوجاتٌ أُخريات على بيوتات النبي فيهن حفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، وسواهن ، لم تتردَّد أم المؤمنين سودة في إيثار عائشة بإخلاصها ، ومودتها، وإن لم تظهر ضيقاً بتلك الزوجات .
فالآن ماذا نستفيد من هذه القصَّة ؟ امرأة متقدِّمة في السن ، لم تنجب أولاداً ، زوجها محروم من الأولاد ، فأراد زوجها أن يتزوج امرأةً تنجب له أولاداً ، دون أن يضحي بها ، دون أن يتخلَى عنها ، هي في مكانتها الرفيعة العليَّة ، هناك زوجاتٌ لا يرضَين بذلك ، ويبتعدن عن أزواجهن ، ويعشن وحدهن ، هل هذا هو العقل ؟ هذا موقف .
هي نالت مبتغاها ، أفسحت المجال للسيدة عائشة وخدمتها ورعتها ، فهذه الزوجة كما قال كُتَّاب السير لم تكن ترضى لنفسها أن تعيش بعيدةً عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد تعلَّقت به تعلُّقاً كبيراً ، وأحبته حباً كثيراً ، فلما بلغها ذلك ، أي بلغها ؛ أولادها الخمسة ، وزوجاته أصبحن كثيرات ، كأنها شعرت أنها عبءٌ على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكأنها تحول بينه وبين سعادته ، هذا الإدراك الدقيق جداً ؛ أن تفهم الأمور على حقيقتها، فقد دنى منها النبي عليه الصلاة والسلام ، فبكت ، قالت : " يا رسول الله هل غمصت عليَّ في الإسلام ؟ " ـ أي هل أخطأت في الإسلام ؟ ـ قال : "اللهمَّ لا " ، قالت : " يا رسول الله يومي لعائشة في رضاك "، أي أنا أريد أن أبقى زوجةً لك ، أريد أن أحظى هذا الشرف العظيم ولا مأرب لي في الرجال . " يومي لعائشة في رضاك ، أريد أن أبقى معك لأنظر إلى وجهك ، فوالله ما بي ما تريد النساء ولكني أحب أن يبعثني الله في نسائك يوم القيامة " ، أي أنا كل مطلبي أن أنظر إليك ، أن أكحِّل عيني بمرآك ، وأن أكون زوجتك هكذا إلى يوم القيامة لأحظى بهذا الشرف ، فهي شعرت أنها عبء ، وأنها تحول بينه وبين سعادته ، وأنه تزوجها جبراً لخاطرها ، وأنها مصبية ـ عندها خمسة صبيان ـ وحينما توهَّمت أنها إذا تركت رسول الله تسعده بتركها ندمت ، قالت : " لا أنا أبقى معك ولكن يومي لعائشة " .
والنبي بالعدل ، كلكم يعلم أن التعدد من شروطه العدل التام بين الزوجات ، العدل في الإنفاق ، والعدل في السُكنى ، والعدل في المبيت ، أما حينما هي تسامح عن طيب خاطر قالت : " يومي لعائشة " ، وهكذا حافظت أم المؤمنين سودة على ودِّها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وعلى قُربها منه ، وعلى صحبته في الدنيا والآخرة .
لقد عاشت رضي الله عنها في كَنَف النبي صلى الله عليه وسلَّم حتى توفي عنها وعن زوجاته الأُخريات ، وطال بها العمر ، حتى توفيت في آخر زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد ظلَّت عائشة أم المؤمنين تذكر سودة حسن صنيعها ، وتؤثرها بجميل الوفاء والثناء الحسن في حياتها وبعد مماتها .
فالعقل بالمرأة شيء رائع جداً ، امرأة حكيمة عاقلة ، تعرف حدودها، تعرف حجمها ، تعرف إمكاناتها ، لا تكن عبئاً على زوجها ، همها إرضاء زوجها ، همها إدخال السرور علىقلبه ، هكذا كانت السيدة سودة بنت زُمعة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها ، وجعلها قدوةً لنساء المسلمين.
والحمد لله رب العالمين
جزى الله كاتبه وناقله خير الجزاء
* * *
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر