فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
عمر بن الخطاب
بقلم وائل السمرى
أنشأ الدواوين ولم يجد حرجاً فى استعارة النظم السياسية والإدارية من الدول «الوثنية» التى اقتبس أنظمتها وتداول عملاتها.
أبطل حد السرقة فى عام المجاعة وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم إلى يومنا هذا ومنع توزيع الأراضى الزراعية فى الأمصار المفتوحة على جنده مجتهدا مع آيات القرآن وسنة الرسول.
أشار على أبى بكر بجمع القرآن بعد استشهاد مئات الحفظة فى حرب الردة وألح عليه فى ذلك رغم تخوف الصديق حتى استجاب له.
لا شك فى أن رسول الله صلى الله على وسلم هو الفقيه الأول والمعلم الأكبر وحامل شعلة الفقه فى الدين والدنيا والأولى والآخرة، لكننا نعتبر أن أول فقهاء الدولة الإسلامية هو الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، وذلك لأنه لا يوجد حد فاصل بين ما كان يقوله النبى صلى الله على وسلم «وحيا» وما كان يقوله «رأيا» ويكفى رسول الله أنه وضع الأساس الفقهى الربانى حينما أرسل معاذا بن جبل إلى اليمن وسأله: «بم تقضى يا معاذ؟» فأجاب: بكتاب الله، فقال الرسول: «فإن لم تجد فى كتاب الله»، قال أقضى بسنة رسوله، قال الرسول: «فإن لم تجد فى سنة رسوله»، قال معاذ: أجتهد رأيى، ولا آلو، فتهلل وجه الرسول وقال: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله» وهو القائل صلوات ربى وسلامه عليه: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِى النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ.
ويبدو أن هذا النبراس الذى وضعه الرسول الكريم هو ما اعتمد عليه عمر بن الخطاب الذى يعده المؤرخون مؤسس الدولة الإسلامية المدنية، الذى حول الدولة من الوضع القبائلى إلى الوضع المؤسسى، والحقيقة التى يجب أن نشير إليها وأن نضعها فى الحسبان ونحن نتناول دور الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى بناء الفقه الإسلامى هو أنه رضى الله عنه اعتبر العقل وحيا دائما، وسار يفعل ما يمليه عليه قلبه حتى فى حياة الرسول، وحفظ لنا تاريخ الإسلام عدة وقائع خالف فيها عمر «رضى الله عنه» رأى رسول الله، فأيد الله عمر من فوق سبع سماوات، فقد تمنى أن يتخذ المسلمون من مقام إبراهيم مصلى فنزلت الآية الكريمة «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر» فنزلت الآية «يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما»، وخالف رأى النبى فى أمر أسرى غزوة بدر فنزلت الآية «ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض» كما استعجل تحريم الخمر لما رآه من عاقبة أفعالها بعقول الناس، فكان يدعو الله ويقول: اللهم بين لنا فى الخمر بياناً شافيا، فكانت تنزل آيات تحريمها متدرجة مراعية أحوال المسلمين فى ذلك الوقت، كما استبشع أن يصلى رسول الله على المنافقين فنزلت الآية الكريمة «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون» كما أن الله بشره بعد صلح الحديبية بدخول مكة حينما ثار وهاج رافضا للصلح فطمأنه رب العزة بالقول: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا» ولهذا قال رسول الله فى بيان فضل عمر: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»
هذا حال عمر بن الخطاب وقت أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم على رؤوس الصحابة يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون، غيورا مدافعا عن دين الله، يريد الله صدقه وحماسه، ويؤيده مرة، ويطمئنه مرة، فصدق عمر قلبه وعقله، واعتمد عليهما دائما حتى بعد وفاة الرسول، ولعل حادثة جمع القرآن كانت الأولى التى يصر فيها عمر على رأى بعد وفاة الرسول، فقد انتهت حروب الردة بمعركة اليمامة، التى قتل فيها الكثير من الصحَّابة وخاصة من حاملى القرآن، إذ بلغ عدد من ماتوا أكثر من خمسمائة، وقد فزعَ عمر بن الخطاب عندما سمعَ بهذه الأرقام، وخشىَ أن يُقتَل المزيد منهم فى المعارك والحروب، فذهب إلى الخليفة الأول أبوبكر الصديق، قائلا: إنّى أرى أن تأمر بجمع القرآن، غير أن أبا بكر تخوَّف من الأمر وقال: «كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله»، فردّ عمر قائلاً: «أرى والله أنه خير» وألح على أبى بكر حتى قبل، وبهذا الاجتهاد حفظ عمر القرآن الكريم من الضياع وفعل أمرا هو الخير ذاته، رغم أن هذا لم يحدث فى عهد الرسول.
واستمرت اجتهادات عمر وآراؤه الصادمة للمجتمع بعد وفاة أبى بكر الصديق، حتى قيل إنه كان يبطل الحدود ويعطل الآيات ويطبق ما يراه صحيحا من وجهة نظره، لكن المتأمل لاجتهادات عمر الكثيرة يجد أنه حافظ فى مجملها على مقاصد الشريعة وغاياتها، وأنه لم يخالف المفهوم العام للآيات الكريمة وإنما استجاب لمؤثرات العصر ومتغيراته ولم يجعل القرآن الكريم أو السنة المطهرة حجابا على عقله وإنما قنديلا يضىء له الطريق، والدليل على ذلك واقعة الاختلاف على تقسيم الأراضى التى فتحها المسلمون عنوة، والتى أبى عمر أن يقسمها على جنده مثلما تأمر الآية الكريمة «واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسة وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان» والتى تأمر بأن توزع أراضى المغنم على جنود المسلمين الذين تحملوا الصعاب فى فتحها، وهو الشىء الذى فعله الرسول ذاته حينما فتح «خيبر» فقسم أراضيها على المسلمين آنذاك، لكن عمر لم يعترف بهذا التقسيم ورأى توزيعها على الفلاّحين أهل البلاد مع أخذ ضريبة منهم، مخالفا بذلك رأى العديد من الصحابة الذين تمسكوا بتنفيذ النص كما هو، لكن عمر أيضاً تمسك برأيه وترك الأراضى لأصحابها من السكان المحليين للبلاد ولم يعطها لجنده ولا ولاته، وبهذا السلوك العقلانى الحميد حافظ عمر على الأراضى الخصبة فى يد من يقدرون على زراعتها، وابتعد بجنوده عن حياة الاستقرار والنعومة، وطمأن أهالى البلاد المفتوحة على أقواتهم وأراضيهم، وحفظ الأرض لمن سيأتى بعد ذلك من المسلمين.
الحالة الثانية التى شهدت اصطداما حادا بين رأى «ابن الخطاب» ونص قرآنى هى إبطاله تنفيذ حد السرقة وهو قطع اليد فى عام المجاعة، وذلك نظرا لانتشار الفقر وعدم قدرته على إحداث حالة الكفاف المنشودة، وبذلك سن سنة جديدة للإسلام وهى عدم تطبيق الحدود العقابية قبل سد الحاجة، أما الاجتهاد الآخر الذى قام به عمر رضى الله عنه فهو إبطال سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، خلافا للآية الكريمة، «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» والمؤلفة قلوبهم هم الذين دخلوا الإسلام حديثا ولم يستقر الإيمان فى قلوبهم فأراد الله جعل وعلا أن يستميل قلوبهم بأن يدمجهم فى المجتمع الإسلامى مانحا إياهم ميزة الحصول على سهم من أموال الزكاة ليؤلف بين قلوبهم والإسلام، وكان رسول الله يجزل لهم العطاء كما سار أبو بكر على هذه الفريضة، أما عمر فقد انتبه سريعا إلى متغيرات العصر، بعد أن اشتد عود الإسلام وقوى بذاته فقال مقولته الشهيرة «لقد أعزّ الله الإسلام، فلم تعد هناك حاجة لتأليف القلوب» وأبطل منح المؤلفة قلوبهم هذا السهم حتى يومنا هذا، فكان اجتهادا كبيرا فى وقت لم يكن يجرؤ أحد على مثل هذا الاجتهاد إلا عمر.
أما اجتهاد عمر الأكبر الذى كان له فضل كبير على بناء الدولة الإسلامية فهو نقل الدولة من النظام القبلى إلى النظام المؤسسى، وكان هذا الاجتهاد ضرورة ملحة وضعها ظرف اتساع الرقعة الإسلامية أمام عمر فوجد أنه لابد للدولة من تأسيس جديد على غرار الامبراطوريات الكبرى، فقسم الممالك الإسلامية إلى خمس مناطق كبيرة، وقسم المناطق إلى قطاعات واختار لكل إقليم واليا يوصيه بجمل وخطابات فى شأن الحكم بما يشبه الدستور الحاكم، وله مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، ولما اتسعت الأعمال وكثرت المغانم والأموال استعار من نظام الحكم الفارسى فكرة إنشاء الدواوين لما رأى فيه فائدة للحاكم والمحكوم، ولم يقل إن هذا النظام مقتبس من دولة وثنية فلا يجوز تطبيقه، بل أعرض عما يمكن أن يثار متخذا من مصلحة المسلمين هدفا أسمى، وانتقى من بين النظام الفارسى والنظام البيزنطى ما رآه مناسبا للوضع الامبراطورى الجديد، وأبقى على الكثير من الأنظمة الإدارية التى ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد، كما أبقى على استعمال العملات البيزنطية والفارسية وكانت تتميز بنقوشها الوثنية التى تصور آلهتهم ومعابدهم وملوكهم، غير ملتفت إلى ما يمكن أن يقال من أن هذه الرسوم وثنية أو أن تداولها كفر، وأنشأ السجن والبريد وقنن عادة التأريخ بعام الهجرة، وغير ذلك من أمور مستحدثة، رأى عمر أن فيها صلاحا للخلق وتمجيدا للخالق، فلم يتورع عن فعلها متبعا هدى الرسول القائل: استفت قلبك ولو أفتوك.
عمر بن الخطاب
بقلم وائل السمرى
أنشأ الدواوين ولم يجد حرجاً فى استعارة النظم السياسية والإدارية من الدول «الوثنية» التى اقتبس أنظمتها وتداول عملاتها.
أبطل حد السرقة فى عام المجاعة وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم إلى يومنا هذا ومنع توزيع الأراضى الزراعية فى الأمصار المفتوحة على جنده مجتهدا مع آيات القرآن وسنة الرسول.
أشار على أبى بكر بجمع القرآن بعد استشهاد مئات الحفظة فى حرب الردة وألح عليه فى ذلك رغم تخوف الصديق حتى استجاب له.
لا شك فى أن رسول الله صلى الله على وسلم هو الفقيه الأول والمعلم الأكبر وحامل شعلة الفقه فى الدين والدنيا والأولى والآخرة، لكننا نعتبر أن أول فقهاء الدولة الإسلامية هو الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، وذلك لأنه لا يوجد حد فاصل بين ما كان يقوله النبى صلى الله على وسلم «وحيا» وما كان يقوله «رأيا» ويكفى رسول الله أنه وضع الأساس الفقهى الربانى حينما أرسل معاذا بن جبل إلى اليمن وسأله: «بم تقضى يا معاذ؟» فأجاب: بكتاب الله، فقال الرسول: «فإن لم تجد فى كتاب الله»، قال أقضى بسنة رسوله، قال الرسول: «فإن لم تجد فى سنة رسوله»، قال معاذ: أجتهد رأيى، ولا آلو، فتهلل وجه الرسول وقال: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله» وهو القائل صلوات ربى وسلامه عليه: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِى النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ.
ويبدو أن هذا النبراس الذى وضعه الرسول الكريم هو ما اعتمد عليه عمر بن الخطاب الذى يعده المؤرخون مؤسس الدولة الإسلامية المدنية، الذى حول الدولة من الوضع القبائلى إلى الوضع المؤسسى، والحقيقة التى يجب أن نشير إليها وأن نضعها فى الحسبان ونحن نتناول دور الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى بناء الفقه الإسلامى هو أنه رضى الله عنه اعتبر العقل وحيا دائما، وسار يفعل ما يمليه عليه قلبه حتى فى حياة الرسول، وحفظ لنا تاريخ الإسلام عدة وقائع خالف فيها عمر «رضى الله عنه» رأى رسول الله، فأيد الله عمر من فوق سبع سماوات، فقد تمنى أن يتخذ المسلمون من مقام إبراهيم مصلى فنزلت الآية الكريمة «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر» فنزلت الآية «يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما»، وخالف رأى النبى فى أمر أسرى غزوة بدر فنزلت الآية «ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض» كما استعجل تحريم الخمر لما رآه من عاقبة أفعالها بعقول الناس، فكان يدعو الله ويقول: اللهم بين لنا فى الخمر بياناً شافيا، فكانت تنزل آيات تحريمها متدرجة مراعية أحوال المسلمين فى ذلك الوقت، كما استبشع أن يصلى رسول الله على المنافقين فنزلت الآية الكريمة «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون» كما أن الله بشره بعد صلح الحديبية بدخول مكة حينما ثار وهاج رافضا للصلح فطمأنه رب العزة بالقول: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا» ولهذا قال رسول الله فى بيان فضل عمر: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»
هذا حال عمر بن الخطاب وقت أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم على رؤوس الصحابة يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون، غيورا مدافعا عن دين الله، يريد الله صدقه وحماسه، ويؤيده مرة، ويطمئنه مرة، فصدق عمر قلبه وعقله، واعتمد عليهما دائما حتى بعد وفاة الرسول، ولعل حادثة جمع القرآن كانت الأولى التى يصر فيها عمر على رأى بعد وفاة الرسول، فقد انتهت حروب الردة بمعركة اليمامة، التى قتل فيها الكثير من الصحَّابة وخاصة من حاملى القرآن، إذ بلغ عدد من ماتوا أكثر من خمسمائة، وقد فزعَ عمر بن الخطاب عندما سمعَ بهذه الأرقام، وخشىَ أن يُقتَل المزيد منهم فى المعارك والحروب، فذهب إلى الخليفة الأول أبوبكر الصديق، قائلا: إنّى أرى أن تأمر بجمع القرآن، غير أن أبا بكر تخوَّف من الأمر وقال: «كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله»، فردّ عمر قائلاً: «أرى والله أنه خير» وألح على أبى بكر حتى قبل، وبهذا الاجتهاد حفظ عمر القرآن الكريم من الضياع وفعل أمرا هو الخير ذاته، رغم أن هذا لم يحدث فى عهد الرسول.
واستمرت اجتهادات عمر وآراؤه الصادمة للمجتمع بعد وفاة أبى بكر الصديق، حتى قيل إنه كان يبطل الحدود ويعطل الآيات ويطبق ما يراه صحيحا من وجهة نظره، لكن المتأمل لاجتهادات عمر الكثيرة يجد أنه حافظ فى مجملها على مقاصد الشريعة وغاياتها، وأنه لم يخالف المفهوم العام للآيات الكريمة وإنما استجاب لمؤثرات العصر ومتغيراته ولم يجعل القرآن الكريم أو السنة المطهرة حجابا على عقله وإنما قنديلا يضىء له الطريق، والدليل على ذلك واقعة الاختلاف على تقسيم الأراضى التى فتحها المسلمون عنوة، والتى أبى عمر أن يقسمها على جنده مثلما تأمر الآية الكريمة «واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسة وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان» والتى تأمر بأن توزع أراضى المغنم على جنود المسلمين الذين تحملوا الصعاب فى فتحها، وهو الشىء الذى فعله الرسول ذاته حينما فتح «خيبر» فقسم أراضيها على المسلمين آنذاك، لكن عمر لم يعترف بهذا التقسيم ورأى توزيعها على الفلاّحين أهل البلاد مع أخذ ضريبة منهم، مخالفا بذلك رأى العديد من الصحابة الذين تمسكوا بتنفيذ النص كما هو، لكن عمر أيضاً تمسك برأيه وترك الأراضى لأصحابها من السكان المحليين للبلاد ولم يعطها لجنده ولا ولاته، وبهذا السلوك العقلانى الحميد حافظ عمر على الأراضى الخصبة فى يد من يقدرون على زراعتها، وابتعد بجنوده عن حياة الاستقرار والنعومة، وطمأن أهالى البلاد المفتوحة على أقواتهم وأراضيهم، وحفظ الأرض لمن سيأتى بعد ذلك من المسلمين.
الحالة الثانية التى شهدت اصطداما حادا بين رأى «ابن الخطاب» ونص قرآنى هى إبطاله تنفيذ حد السرقة وهو قطع اليد فى عام المجاعة، وذلك نظرا لانتشار الفقر وعدم قدرته على إحداث حالة الكفاف المنشودة، وبذلك سن سنة جديدة للإسلام وهى عدم تطبيق الحدود العقابية قبل سد الحاجة، أما الاجتهاد الآخر الذى قام به عمر رضى الله عنه فهو إبطال سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، خلافا للآية الكريمة، «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» والمؤلفة قلوبهم هم الذين دخلوا الإسلام حديثا ولم يستقر الإيمان فى قلوبهم فأراد الله جعل وعلا أن يستميل قلوبهم بأن يدمجهم فى المجتمع الإسلامى مانحا إياهم ميزة الحصول على سهم من أموال الزكاة ليؤلف بين قلوبهم والإسلام، وكان رسول الله يجزل لهم العطاء كما سار أبو بكر على هذه الفريضة، أما عمر فقد انتبه سريعا إلى متغيرات العصر، بعد أن اشتد عود الإسلام وقوى بذاته فقال مقولته الشهيرة «لقد أعزّ الله الإسلام، فلم تعد هناك حاجة لتأليف القلوب» وأبطل منح المؤلفة قلوبهم هذا السهم حتى يومنا هذا، فكان اجتهادا كبيرا فى وقت لم يكن يجرؤ أحد على مثل هذا الاجتهاد إلا عمر.
أما اجتهاد عمر الأكبر الذى كان له فضل كبير على بناء الدولة الإسلامية فهو نقل الدولة من النظام القبلى إلى النظام المؤسسى، وكان هذا الاجتهاد ضرورة ملحة وضعها ظرف اتساع الرقعة الإسلامية أمام عمر فوجد أنه لابد للدولة من تأسيس جديد على غرار الامبراطوريات الكبرى، فقسم الممالك الإسلامية إلى خمس مناطق كبيرة، وقسم المناطق إلى قطاعات واختار لكل إقليم واليا يوصيه بجمل وخطابات فى شأن الحكم بما يشبه الدستور الحاكم، وله مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، ولما اتسعت الأعمال وكثرت المغانم والأموال استعار من نظام الحكم الفارسى فكرة إنشاء الدواوين لما رأى فيه فائدة للحاكم والمحكوم، ولم يقل إن هذا النظام مقتبس من دولة وثنية فلا يجوز تطبيقه، بل أعرض عما يمكن أن يثار متخذا من مصلحة المسلمين هدفا أسمى، وانتقى من بين النظام الفارسى والنظام البيزنطى ما رآه مناسبا للوضع الامبراطورى الجديد، وأبقى على الكثير من الأنظمة الإدارية التى ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد، كما أبقى على استعمال العملات البيزنطية والفارسية وكانت تتميز بنقوشها الوثنية التى تصور آلهتهم ومعابدهم وملوكهم، غير ملتفت إلى ما يمكن أن يقال من أن هذه الرسوم وثنية أو أن تداولها كفر، وأنشأ السجن والبريد وقنن عادة التأريخ بعام الهجرة، وغير ذلك من أمور مستحدثة، رأى عمر أن فيها صلاحا للخلق وتمجيدا للخالق، فلم يتورع عن فعلها متبعا هدى الرسول القائل: استفت قلبك ولو أفتوك.
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر