كيف تتذوق القرآن الكريم 3
وهناك شكل الدعاء المتموج الطويل الخاشع: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}... (آل عمران : 191 – 192).
وقد يضع التعبير القرآني إطارًا للصورة، ثم يطلق من حولها الإيقاع المناسب لهذا الإطار، ففي سورة الضحى يكون هناك جو من الحنان اللطيف والرحمة الوديعة من خلال نظام لطيف العبارة رتيب الحركات، فلما أراد إطارًا لهذا الحنان اللطيف جعله من الضحى الرائق والليل الساجي، أصفى آنيين من آونة الليل والنهار.
وهناك شكل آخر خشن عنيف فيه دمدمة وفرقعة.. تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة والصدور المحصّل ما فيها بقوة، وجو الجحود وشدة الأثرة كما في سورة العاديات: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}
فإذا أراد لهذا إطارًا مناسبًا اختاره من نفس الجو الصاخب المعفر الذي تثيره الخيل، فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار.
وقد تأتي صورتان لكل منهما إطارها المناسب: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}... (الليل : 1 - 10)، فهنا صورة فيها الأسود والأبيض، من أعطى واتقى، ومن بخل واستغنى، وفي الإطار كذلك الأسود والأبيض، الليل إذا يغشى هذه المرة (وليس إذا سجى)، والنهار إذا تجلى (المقابل لليل إذا يغشى)، وهنا الذكر والأنثى المتقابلان في النوع والخلقة، فذلك إطار مناسب للصورة.. أما الشكل المصاحب فلا هي أعلى من {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}... (الضحى : 1 - 2)، ولكنها ليست عنيفة قاسية كسورة العاديات؛ لأن الجو للسرد والبيان أكثر مما هو للهول والتحذير.
وحدة الرسم المعجز
وهناك وحدة الرسم تحتم التناسق بين أجزاء السورة، فإذا قرأت سورة الفلق وجدت أن الجو المراد إطلاقه هو جو التعويذة، بما فيه من هيمنة وخفاء؛ لذلك ناسبه جو الشر والليل يتغلغل ظلامه، ونفث الساحرات في العقد، والحسد الباطني المطمور في ظلام النفس.. فالجو كله ظلام وغموض ناسبه استخدام لفظ الفلق، وهو مرحلة تجمع بين النور والظلمة ولها جوها الغامض المسحور.
وقد عبّر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر مرة بأنها هامدة ومرة بأنها خاشعة، وقد يفهم البعض أنه مجرد تنويع في التعبير، لكن الحقيقة أن السياق اختلف في المرتين.. ففي السياق الأول جو بعث وإحياء وخلق ناسبه وصف الأرض بأنها هامدة، ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}... (الحج : 5)، ثم قال تعالى في نهاية الآية: {... وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
أما السياق الثاني فجو عبادة وخشوع ناسبه تصوير الأرض بأنها خاشعة: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ...}... (فصلت : 37 – 39)، ثم لا يزيد على الاهتزاز والرَّبْء الإنبات والإخراج كما زاد هناك؛ لأنه لا محل لهما في جو العبادة والسجود.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن بعض آفاق من التناسق والاتساق فمن نظم فصيح إلى سرد عذب إلى معنى مترابط إلى لفظ معبر، إلى تصوير محسوس إلى موسيقى منغمة إلى اتساق في الأجزاء والإطار والموسيقى والإخراج.. وبهذا كله يتم الإبداع ويتحقق الإعجاز.
والله المستعان وهو قصد السبيل
المصدر: اون اسلام
وهناك شكل الدعاء المتموج الطويل الخاشع: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}... (آل عمران : 191 – 192).
وقد يضع التعبير القرآني إطارًا للصورة، ثم يطلق من حولها الإيقاع المناسب لهذا الإطار، ففي سورة الضحى يكون هناك جو من الحنان اللطيف والرحمة الوديعة من خلال نظام لطيف العبارة رتيب الحركات، فلما أراد إطارًا لهذا الحنان اللطيف جعله من الضحى الرائق والليل الساجي، أصفى آنيين من آونة الليل والنهار.
وهناك شكل آخر خشن عنيف فيه دمدمة وفرقعة.. تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة والصدور المحصّل ما فيها بقوة، وجو الجحود وشدة الأثرة كما في سورة العاديات: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}
فإذا أراد لهذا إطارًا مناسبًا اختاره من نفس الجو الصاخب المعفر الذي تثيره الخيل، فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار.
وقد تأتي صورتان لكل منهما إطارها المناسب: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}... (الليل : 1 - 10)، فهنا صورة فيها الأسود والأبيض، من أعطى واتقى، ومن بخل واستغنى، وفي الإطار كذلك الأسود والأبيض، الليل إذا يغشى هذه المرة (وليس إذا سجى)، والنهار إذا تجلى (المقابل لليل إذا يغشى)، وهنا الذكر والأنثى المتقابلان في النوع والخلقة، فذلك إطار مناسب للصورة.. أما الشكل المصاحب فلا هي أعلى من {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}... (الضحى : 1 - 2)، ولكنها ليست عنيفة قاسية كسورة العاديات؛ لأن الجو للسرد والبيان أكثر مما هو للهول والتحذير.
وحدة الرسم المعجز
وهناك وحدة الرسم تحتم التناسق بين أجزاء السورة، فإذا قرأت سورة الفلق وجدت أن الجو المراد إطلاقه هو جو التعويذة، بما فيه من هيمنة وخفاء؛ لذلك ناسبه جو الشر والليل يتغلغل ظلامه، ونفث الساحرات في العقد، والحسد الباطني المطمور في ظلام النفس.. فالجو كله ظلام وغموض ناسبه استخدام لفظ الفلق، وهو مرحلة تجمع بين النور والظلمة ولها جوها الغامض المسحور.
وقد عبّر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر مرة بأنها هامدة ومرة بأنها خاشعة، وقد يفهم البعض أنه مجرد تنويع في التعبير، لكن الحقيقة أن السياق اختلف في المرتين.. ففي السياق الأول جو بعث وإحياء وخلق ناسبه وصف الأرض بأنها هامدة، ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}... (الحج : 5)، ثم قال تعالى في نهاية الآية: {... وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
أما السياق الثاني فجو عبادة وخشوع ناسبه تصوير الأرض بأنها خاشعة: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ...}... (فصلت : 37 – 39)، ثم لا يزيد على الاهتزاز والرَّبْء الإنبات والإخراج كما زاد هناك؛ لأنه لا محل لهما في جو العبادة والسجود.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن بعض آفاق من التناسق والاتساق فمن نظم فصيح إلى سرد عذب إلى معنى مترابط إلى لفظ معبر، إلى تصوير محسوس إلى موسيقى منغمة إلى اتساق في الأجزاء والإطار والموسيقى والإخراج.. وبهذا كله يتم الإبداع ويتحقق الإعجاز.
والله المستعان وهو قصد السبيل
المصدر: اون اسلام
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر