قراءة مُعاصرة في خصائص السُنة النبوية
مروان محد عبدالهادى
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود: 88)
كثُرَ الحديث وكثرت التناقضات وكثرت الأسئلة حول السنة النبوية هل هي وحيٌّ ودينٌ ومصدر تشريع ثانٍ؟ فإذا كانت كذلك، فلماذا لم تحفظ من التحريف والزيادة والنقصان، والتناقض والتضارب كما حفظ القرآن؟ وهل هي شارحة للتنزيل الحكيم؟ فإذا كانت السنة النبوية شارحة لكتاب الله تعالى كما يزعم رجال الدين، فأين هذا الشرح المزعوم وهناك سوراً بأكملها لم يشرح الرسول (ص) منها حرفاً واحدا، وفي نفس الوقت بين أيدينا عشرات التفاسير، إن اتفقت على مدلول آية اختلفت في غيرهاّ؟
لقد تعددت مفاهيم السُنة النبوية لدى علماء الدين، ووضع (بعضهم) لها تعريفات ما أنزل الله بها من سلطان، وقلَت اجتهادات (بعضهم) القرآنية وكثرت آراؤهم الشخصية وتباينت فيما بينهم، وكل أدلى بدلوه، فباتت سُنته (ص) ناسخة لكتاب الله تعالى وقاضية عليه، مُعلِلين ذلك بقولهم "القرآن أحوج إلى السُنة أكثر من حاجة السُنة إلى القرآن"! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون.
القول المشهور عند السادة العلماء، أن معنى السنة والحديث في الاصطلاح واحد، وهو كل ما نقل عن النبي (ص) من قول أو فعل، أو إقرار أو تقرير، أو صفة خلقية أو صفة خُلقية، حتى الحركات والسكنات.. في اليقظة والمنام! قبل البعثة أو بعدها!
فالتعريف الفقهي لمصطلح السُنة المتعارف عليه عند السادة العُلماء ليس إلا وجهة نظر شخصية أصلها الإمام الشافعي، وليس النبي (ص) وهي قطعاً قابلة للنقاش والأخذ والرد، ولا تحمل أية قداسة. وانطلاقا من هذا المُصطلح الشخصي المُبتدع (السُنة، الحكمة، أو الوحي الثاني) الذي أوجده الإمام الشافعي، وبني عليه طاعة إلهية، أدخل المُسلمين في خلافات وتناقضات ومتاهات، نُعاني من أثارها في كل ساعة من ساعات اليوم الواحد،، مُعتبرين أفعال النبي (ص) حتى الشخصية منها، كإطلاق اللحى والسِواك أو كونه (ص) كان يأكل بيده اليُمنى، ويأكل التمر، أو يتبولَ قائماً أو جالساً! أو استخدامه للعود الهندي، وأنه كان صلوات الله عليه، ينام على جنبه الأيمن مصدراً من مصادر التشريع!
فالمُدقق المُتجرد في فقه الإمام الشافعي يرى بوضوح الدور الرئيس الذي لعبه هذا الفقيه، في الخلط بين أسلوب النبي (ص) الإنساني الشخصي في الحياة، وبين التشريعات الربانية، وكيف أصلّ فهمه للسُنة النبوية التي اخترعها بربطِها مُباشرة بطاعة الله تعالى، حيث نجده يقول في كتابه الرسالة:
اقتباس : فيُجمع القبول لما في كتاب الله ولسُنة رسول الله، القبول لكل واحد منهما عن الله ، وإن تفرع فروع الأسباب التي قبل بها عنهما، كما أحلَ وحرَم، وفرض وحدَ: بأسباب مُتفرقة كما شاء جلَ ثناؤه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء:23) (انتهى)
إننا لا نجد لمُصطلح السُنة المُبتدع والمُعرف أعلاه، أية ذكر أو نص قرآني ظني أو قطعي في كتاب الله تعالى سوى بعض الآيات التي استشكل فهمها على السواد الأعظم من المسلمين، أو بعض الأحاديث المكذوبة على رسول الله (ص) لذا كان لا بدَّ لنا من تدبر آيات التنزيل الحكيم حتى يتيسر لنا الحكم بأصل هذا المُصطلح، حيث ورد مُصطلح (سُنة) في أربعة مواضع في التنزيل الحكيم من دون الإشارة ولو لمرة واحدة لسُنة الرسول (ص) البشر المخلوق، القاضية حسب المفهوم الفقهي المُبتدع على كتاب وأحكام خالقه المُحكمة.. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (الأنعام: 10) نقف خاشعين أمام قول الله تعالى:
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ (لِسُنَّةِ اللَّهِ) تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (فاطر:43)
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ سُنَّةَ مَن قَدْ رْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ( الإسراء: 76- 77)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (غافر: 84-85)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الفتح:23)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الأحزاب:62)
بعد رحيل رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، ومنذ اللحظة الأولى، نشأت مُشكلة وراثة الدولة التي أسسها النبي (ص) فادعى كل طرف من المهاجرين والأنصار بأنه الوريث الأحق لزعامة هذه الدولة الفتية، وكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار سياسياً لكنهم كانوا سباقين في نشر الرسالة، وفي تأسيس وتثبيت دعائم الدولة التي كُبرت. وبعد مقتل عُثمان بن عفان عام 35 ه حصلت الفتنة الكُبرى في الإسلام بين معاوية بن أبي سُفيان الذي كان حديث العهد بالإسلام (1) وعلي بن أبي طالب، هُزم فيها الأخير، وبعد التحكيم الشهير أصبح معاوية السُلطان الأول للُسنة في الإسلام.. وتمت تسمية الذين اتبعوا علي بن أبى طالب (الشيعة) والذين خرجوا عليه (الخوارج) (2) في موقعة صفين الفاصلة (3) وهكذا انقسم المسلِمون إلى طوائف ثلاث، أكبرهم طائفة المُنتصر، أهل السُنة والجماعة، (4) التي أنهت المرحلة الراشدة بشكل مُرعب، فعمَ الحديث واستشرى بين المسلمين ورُفع إلى مستوى القرآن، لذا فإن الأحاديث اَلْمُتَدَاوَلَة بين أتباع الفهم المغلوط للسُنة النبوية، وما يُطلق عليه جزافاً بالأحاديث الصحيحة..ليست إلا أحاديث مليئة بالطمي والرمم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير، بالرغم من قول الحق سُبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النحل:105)
لقد تلاقت أهداف السلطان مع أهداف (البعض) من أهل الكتاب للعبثِ بدين الله تعالى وتحريفه، رغم اختلاف مصلحة كل فريق، فالهدف الرئيس (للبعض) من أهل الكتاب عقائدي، بينما كان هدف السلطان مادياً وسياسي، لقد كان من المستحيل على الطرفين، تحريف كتاب الله تعالى والعبث به، فتضافرت الجهود لإيجاد وسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف المنشودة، فتمخض عن هذه الجهود ولادة الأحاديث على رسول الله (ص) وبِدعة السُنة النبوية بمفهومها الفقهي الحالي الذي أصله الإمام الشافعي، رحمه الله. إن أصل البدعة مشروع سياسي غُلف بغلاف ديني، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر. لقد اختلفت الأسباب، وكان الهدفُ واحد.
شرعية الأمويين والعباسيين
لم يجد الباحثون عن الشرعية في خلافة النبي (ص) من الأمويين والعباسيين إلا الاتكاء على آيات الإرث وآيات طاعة أولي الأمر لشرعنة مطلبهم، فالأمويون اتخذوا من طاعة أولي الأمر غِطاء أيديولوجيا وتكريساً لواقع قضاء الله وقدره ولا سبيل لرده، واعتبروا المعارضين لحكمهم، إنما هم يعارضون قضاء الله وقدره، وقد كان علماء السوء (علماء السلطان) خير معين للأمويين في اختراع تعريف مشوه للقضاء والقدر لتثبيت حكمهم، وهو أن قضاء الله تعالى هو علمه الأزلي، والله تعالى يعلم منذ الأزل بأن بني أمية سيتولون مقاليد الحكم، ولا رَادِّ إلى وقف القدر القاضي بنفاذ هذا القضاء.
في حين ابتدع عُلماء السُلطان للعباسيين الأقرب للنبي (ص) قاعدة فقهية سافرة أُدخلت على أحكام آيات الإرث والوصية، وهي أن البنت لا تحجب، لتكون غِطاء أيديولوجياً لشرعنة حكمهم وحقهم في ميراثه، ووضع حديث نُسب إلى النبي (ص) وهو حديث (لا وصية لوارث) وهو من أحاديث الآحاد، أخذه الأمام الشافعي من أهل المغازي، (كتب المغازي تحوي الغث والسمين من روايات السيرة النبوية) رغم إنكار الأخير في كتابه "الرسالة" لأحاديث الآحاد في مجال العقائد، فكان تناقضه مع الذات مثيراً للدهشة، ولكن ليس للاستغراب، فمداهنة البعض للحكام قد تتطلب موقفاً مُماثلا، خاصةً إذا وجد هذا البعض نفسه أمام مُفترقات خطرة، وبذلك تأسست أخطر سابقة عرفها التاريخ الإسلامي، وهي أن السُنة (الحديث النبوي) ناسخة للقرآن، وأن القرآن أحوج إلى السُنة من السُنة للقرآن! إن القارئ الفطن لا يحتاج إلى دكتوراه في علوم القرآن واللغة حتى يفهم المُراد من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ( النساء 11 )
فالله سُبحانه وتعالى في هذه الآية الواضحة، يوصينا في أولادنا، ذكوراً وإناثاً، وأن الولد قد يكون ذكراً وقد ويكون أنثى. وهنا نتوقف لنسأل السادة العُلماء، والفقهاء، والمحدثين من حملة الشهادات العُليا، هل الأولاد هم حصراً الذكور أم فيهم الإناث؟ وهل الوالدات يُرضعن الذكور فقط من دون الإناث؟ أين أنتم من قول الله تعالى: الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( البقرة: 233)
نعم، لقد استفرد سلاطين بني العباس بالحكم بعد أن أُخرجت ابنة رسول الله (ص) وأبنائها من اللُعبة السياسية من جهة، وصارت الأنثى لا تحجب منذ ذلك الحين من جهة أخرى، وأهدرت نصف حقوقها من الإرث وتشتت على أعمامها بدون وجه حق (هؤلاء الأعمام لا نجد لهم ذكراً في آيات المواريث!)
للأسف الشديد كان الإمام الشافعي على رأس المُبتدعين، فإن قال بأن البنت ولد، وبأنها تحجب كالذكر تماماً ، اتهمه العباسيون بالتشيع! وإن جانب الحق صار مارقاً، وهما خياران أحلاهما علقما عند العباسيين، وبذلك تم إبعاد ابنة رسول الله (ص) كوارثة، كما تم إبعاد الخليفة الرابع على كرَم الله وجهه، باعتباره ابن عم النبي (ص) والعم أحق وأولى، وصار الولد ذكراً، بالرغم من قول الحق سُبحانه وتعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (النساء: 11)
وحتى لا نُتهم بأننا نهرف بما لا نعرف، فسوف نقتبس حرفياً ما رواه الطبري في تاريخه: المُجلد الحادي عشر النسخة الإلكترونية نصوصاً من الرسائل المُتبادلة بين أبي جعفر المنصور وبين الإمام محمد بن عبدا لله المُلقب بالنفس الزكية، الذي خرج على طاعة أبي جعفر المنصور وحكم بني العباس مُستنكراً بطشه في الطلابيين:
أرسل المنصور رسالة إلى الإمام يدعوه فيها إلى التوبة مُقابل الأمان له ولمن بايعه، فرد الإمام بدعوة المنصور إلى الدخول في طاعته وبيعته آمناُ على نفسه وماله، يقول فيها: "وأنا أولى بالأمر منك وافى بالعهد، لأنك أعطيتني من الأمن والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني، أمان هبيرة أم أمان أبي مُسلم؟"
لكن الإمام أسهب في مطلع رسالته بالاعتداد بنسبه إلى فاطمة والنبي (ص) وبأرومته المُمتدة إلى الإمام عليّ كرم الله وجهه، فيقول،" وإن أبانا عليٌ كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده على قيد الحياة؟ ويُتابع قائلاً، وأني أوسط بين هاشم نسبا وأصرحهم أباً، وأمي لم تعرق في العجم، ولم تُنازع في أمهات الأولاد." لم يأت رد المنصور على مُفاخرة الإمام بنسبه إلى فاطمة والنبي (ص) وبأرومته المُمتدة إلى الإمام عليّ كرم الله وجهه عرضياً أو مُبطناً، بل كان صريحاً وحاسماً، ويُبين بجلاء ارتكاز العباسيين على آيات الإرث في شرعنه حكمهم. يقول المنصور:
"فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتُضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أباً، وبدأ به في كتابه على الولد الأدنى، فقال جلّ ثناؤه عن نبيه يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (يوسف: 38)" ويُتابع المنصور قائلاً: “"وأما قولك: إنكم بنو رسول الله (ص) فإن الله تعالى يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب:40) ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها، ولقد جاءت السُنة التي لا خِلاف فيها بين المُسلمين؟ (أن الجد أبا الأم، والخال والخالة لا يرثون؟)" (انتهى)
لم يجد بني العباس بُداً من إبعاد الناس عن نصوص القرآن الكريم لتثبيت العقيدة الجديدة، عقيدة الروايات، التي من شأنها أن تخدم السُلطان وحده، فتم إضافة الأحاديث التي تؤيد العباسيين وأحقيتهم في الحكم والتركيز على الروايات التي توجب أن يكون الحكم للقرشيين من دون القبائل الأخرى. أرجو أن لا يغيب عن ضمير الباحث المُتجرد النزيه، بأن الإمامين البُخاري ومُسلم، عاشا تحت سيطرة وسطوة سلاطين بني العباس، وكان لا يُسمح إطلاقاً بمُهاجمة الأحاديث التي كان لها السُلطة الفعلية في إصدار الفتاوى والقوانين، التي ربما وضعت حدوداً على ما يمكن نشره، أو حتى كانا مُكرهين ولم يستطيعا التعبير الصادق عن رأيهما، فدخل إلى صححيهما الكم الكبير من الأحاديث الموضوعة التي أساءت إلى الإسلام والمسلمين، وأصابتهما في مقتل.
إن أصحاب الفهم المغلوط للسُنة النبوية يتكئون على ما يُسمى بالحديث النبوي الظني، والمُمتلئ بالإسرائيليات، وألطم والرمم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير، ولن نزيد، كمصدر للدين والعلم، معُتبرين هذه الأحاديث وحياً إلهياً ثانيا، وسُنة رسول الله (ص) القولية، بل ويصفون الصحيحين، على أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله! والمُحزن جداً بأن السواد الأعظم من المُسلمين قد سلمّ بهذه المُغالطة تحت طائلة التكفير والنفي، فالمُمعن في دراسة هذه الكتب لا يجد فيها من الصحة إلا القليل النادر، فإن ثبتت عند البخاري نفاها مُسلم، فالحديث صحيحٌ فقط في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته، وأن ما يُقال عنه "مُتفق عليه" ليس المُراد أنه مُتفق على صحته في الأمر، وإنما المُراد أن البُخاري ومُسلم قد اتفقا على إخراجه، (5) بعد أن أهمل عُلماء الحديث جميعاً أمراً خطيراً، وهو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي (ص)
وقد يكون خافياً على السواد الأعظم من المسلمين، بأن الأحاديث النبوية الظنية الثبوت، قد نُقلت إلينا بالمعنى، وإن جهد السادة العُلماء بإقناعنا بدقة الرواة، وما تناقض الأحاديث مع التنزيل الحكيم من جهة، ومع العقل والعلم من جهة ثانية، إلا دليل على ذلك. هذه الحقيقة قد تم التستر عليها من قبل رجال الدين الذين جعلوا من رواد المساجد أشرطة تسجيل صماء بكماء عمياء، يُساقون إلى مُستنقعات من الجهل كما تُساق الخِراف إلى السلخ، تحت شعار الحديث المكذوب على رسول الله (ص) العلماء ورثة الأنبياء!
لقد طرحنا سؤلاً هاماً وحتى الساعة لم نسمع جواباً: كيف يكون في وحيّ الله تعالى، المتواتر، المشهور، الصحيح، الحسن، الضعيف، المرسل، المُنكر، المعروف، المتابع، المتروك، المعنعن، العزيز، الغريب، المُعلل، المُضطرب، المدرج، والمغلوب، المسند، المرفوع، والموقوف، الموصول، المقطوع، المقطع، المُعضَل، المُدّلَس، الشاذ، المحفوظ، الموضوع،– المسلسل، المُصحَف، المؤتلف، المُتفق، المُفترق، المُتشابه، العالي، النازل، الناسخ، المنسوخ؟
كتب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على صفحات موقعه الإلكتروني مؤكداً ما ذهبنا إليه، الآتي:
اقتباس : أن السنة من أجل ذلك دخلها المنكر والموضوع، وما لا أصل له من الحديث ، فضلا عن الضعيف والواهي وما لا يصلح للاحتجاج به، واختلط الحابل بالنابل، فلم يعد في الإمكان التمييز بين ما يصح وما لا يصح، وصحيح. (انتهى)
هل الأحاديث النبوية وحيّ مُنزل؟
الوحيّ في معاجم اللغة: لسان العرب: الوَحْيُ، الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك.
مقاييس اللغة: وحيّ، الواو والحاء والحرف المعتلّ، أصلٌ يدلُّ على إلقاء عِلْمٍ في إخفاء أو غيره إلى غيره. يقول الحق سُبحانه وتعالى:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( الأنعام: 19)
وَكَذَلِكَ (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً) عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(الشورى: 7)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: 3 )
وَاتْلُ مَا (أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (الكهف:27 )
اتْلُ مَا (أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( العنكبوت: 45 )
وَالَّذِي (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (فاطر: 31)
إن المُتأمل في هذه الآيات، يرى بوضوح لا يقبل اللُبس. فالله تعالى هو الذي أوحى، والرسول (ص) هو الذي أُوحي إليه، والتنزيل الحكيم"إن هو وحيَ" الكلام الخفي ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) لقد ساور مُعظم العرب الشك في ( الكلام الخفي ) الذي كان يتنزل على قلب رسول الله (ص) فالوحيَ كان موضوع التساؤل والشك، ولم تكن المُشكلة قطعاً في أقوال الرسول (ص) وأفعاله أو في سلوكه الشخصي. أنظر إلى قوله تعالى: وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (القلم: 51)
ففي التنزيل الحكيم فإننا نقرأ: وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (قَالَ)إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿البقرة: 124﴾ فهل يصح أن نقول: نطق الله،؟ فالتنزيل الحكيم قول الله تعالى ونطق رسوله الكريم، فإن قلنا نطق الله فقد كذبنا، وإن قلنا قال رسول:إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ الله فقد أمعنا في الكذب.
وثمة من يوجه إلينا سؤلاً مشروعاً، أليست الحكمة في كتاب الله هي السُنة النبوية، ألم يقل الحق سُبحانه وتعالى: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 )
نُجيب بما روي عن رسول الله (ص) إن صّحّ عنه: "الحكمة ضالة المُؤمن أينما وجدها ( أخذها ) وفي رواية هو أحق بها ( الترمذي 611 ) وهذا الحديث إن صحَ عن رسول الله (ص) فإنه يؤكد بأن الحكمة ليست وحياً، قد تأتي الحكمة وحيَاً وقد لا تأتي، أي ليس لِزاماً لها، فهي ليست إلا تعاليم عامة أخلاقية مقبولة إنسانياً لكل أهل الأرض، وغير مقصورة على الأنبياء، بل أنها تجري على ألسن الحُكماء في كل زمان ومكان حتى قيام الساعة. فلُقمان لم يكن نبياً، كقوله سُبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (لقمان: 12 ) وقوله أيضا:ً
يؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
وحيَ أم وحيين ؟ هل الحكمة هي السُنة؟
يعتبر الإمام الشافعي وبدون أن يُقدم دليلاً واحداً من آيات الكتاب، أو حتى الحديث النبوي الذي اعتمده هو نفسه في استنتاجه، بأن الحكمة في كتاب الله تعالى هي السُنة النبوية، حيث نجده يقول في البيان الرابع من كتابه "الرسالة"
اقتباس: كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذكر ما منَ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة، دليلٌ على أن الحكمة سُنة رسول الله، وفي موضع آخر من نفس الكتاب نجده يقول:
فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سُنة رسول الله ، وهذا ما يُشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر اتبعته الحكمة، وذكر الله مّنَه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يُجوز- والله أعلم - أن يُقال الحكمة هنا إلا سُنة رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع الكتاب، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس إتباع أمره، فلا يجوز أن يُقال لقولٍ فُرض إلا لكتاب الله وسُنة رسوله لما وصفناه من أن الله جعل الإيمان برسوله قروناً بالإيمان به. ( انتهى )
ذهبنا إلى كتاب الله تعالى فبحثنا في آياته، ووجدنا أن مدلول كلمة الحكمة لا يشير لا من قريب أو بعيد إلى مُصطلح السُنة النبوية، لنتأمل قول الحق سُبحانه وتعالى: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء:13)
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الزخرف:63)
أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء: 54)
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (الأحزاب:34) لنتدبر إحدى الآيات القرآنية التي تموضعت في حقلها الحكمة، يقول سُبحانه وتعالى:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (- الإسراء: 36- 39)
فإذا ما عدنا إلى قوله تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
يتبين لنا بشكل قاطع بأن الحكمة لا تحتاج إلى نبوة ولا إلى رسالة، فلقمان أوتي الحكمة وهو ليس بنبي ولا برسول بدلالة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ إِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد (لقمان: 12) والسؤال الذي نطرحه على أصحاب الاختصاص والذي يفرض نفسه بقوة: إذا كانت الحكمة هي السُنة، فأين هي السُنة عند نوح وهود شعيب وصالح وموسى وعيسى، وإسماعيل وإبراهيم ويوسف، وهؤلاء جميعاً يشملهم قول الحق سُبحانه في الآيات التي استشهدنا بها؟
إن المُدقق في مرامي لفظ الحكمة التي وردت في سياق الآيات الكريمة، يرى بوضوح لا لبس فيه، بأن آيات الحكمة خالية من التشريعات أو الأحكام، وبالتالي فإنه لا يُبنى عليها أحكامٌ شرعية أو عقائدية، ومن المُفيد استعراض بعض أحاديث الحكمة التي نُسبت إلى رسول الله (ص) "إن صحت عنه"
لا ضرر، ولا ضِرار (ابن ماجة 2331)
دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك (الترمذي 2442)
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراُ أو يصمت (البخاري 5550)
لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه (البخاري 12)
المُسلم من سلم الناس من يده ولسانه (البخاري 9 )
وهنا لنا وقفة مع عُلماء النقل.. إذا كانت السُنة هي الحكمة، لماذا لم يُعرفها الرسول (ص) للمسلمين بنفسه؟ ولماذا لم يأمر بجمعها وكتابتها إلى جانب كتاب الله؟ وهل يصح أن يدع نصف ما أوحى الله تعالى إليه يغدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك، ويتزيد فيه هذا وذاك؟ وهل يكون الرسول (ص) قد بلغ الرسالة على وجهها، وأدى الأمانة كلها؟ ثم كيف كان حال المسلمين الذين قضوا قبل أكثر من قرن ونصف من ولادة الإمام الشافعي، الذي ولد سنة 150 وتوفي 205 ه، دون أن يعرفوا بأن الحكمة هي سُنة رسول الله وأنها المصدر الرديف لشرع الله تعالى وأوامره؟
هل السُنة النبوية شارحة لكتاب الله مُبينة لأحكامه؟
لقد أجمع عُلماء الأمة سلفاً وخلفاً، وعلى رأسهم الإمام الشافعي، بعد أن استشكل عليهم فهم المُراد بقوله تعالى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) على أن السُنة شارحة لكتاب الله مُبينة لأحكامه، فقول الحق سُبحانه، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:44) تأمر الرسول (ص) بأن يُظهر ولا يكتم ما نُزِلَّ إليه (ص) من الذكر الحكيم (أمرٌ بالإظهار والإبانة وعدم الكتمان) بدلالة قوله تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا (يُبَيِّنُ) لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ (تُخْفُونَ) مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (المائدة:15)
إِنَّ الَّذِينَ (يَكْتُمُونَ) مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا (بَيَّنَّاهُ) لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة:159)
أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ (لَتُبَيِّنُنَّهُ) لِلنَّاسِ (وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (آل عمران: 187)
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى (يَتَبَيَّنَ) لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (البقرة:187)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا (تَبَيَّنَ) لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيم (التوبة: 114)
يقول الشيخ الألباني رحمه الله، في رسالة بعنوان "منزلة السنة في الإسلام" وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن، يقول فيها:
اقتباس: "تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته، واختصه برسالته، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم، وأمره فيه - في جملة ما أمره به أن يبينه للناس، فقال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم (النحل:44) والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشمل على نوعين من البيان." (انتهى)"
لأول : بيان اللفظ ونظمه وهو تبليغ القرآن وعدم كتمانه وأداؤه إلى الأمة ، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو المراد بقوله تعالى: ( يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك ) (المائدة:67) وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنه في حديث لها "ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه: فقد أعظم على الله الفرية"، ثم تلت الآية المذكورة " (أخرجه الشيخان) ، وفي رواية لمسلم، " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (الأحزاب:37)
والآخر: بيان معنى اللفظ، أو الجملة، أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة، أو العامة، أو المطلقة، فتأتي السنَّة" فتوضح المجمل، وتُخصِّص العام، وتقيِّد المطلق، وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم، كما يكون بفعله وإقراره. (انتهى)"
نُقدر اجتهاد الشيخ، رحمة الله عليه، ونتفق معه بأن بيان اللفظ ونظمه، هو تبليغ القرآن، وعدم كتمانه، وأداؤه إلى الأمة ، كما نزله الله تبارك وتعالى على قلب رسول الله (ص) ونختلف معه في أن السُنة مُبينة ومُفسرة، فتوضح المُجمل، وتُخصص العام، وتُقيد المُطلق. فقول الله سُبحانه:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً (لِّكُلِّ شَيْءٍ) وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين ( النحل 89 ) يدحض إدعاء الشيخ وينسفه.. فقوله سُبحانه في غاية الوضوح: وَنَزَّلْنَا الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء.
كتب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، أحد العلماء البارزين، والدعاة المشهورين، والمصلحين المعدودين على أهل السُنة والجماعة، وعلى صفحات موقعه الالكتروني وفي مُجمل رده على شُبهات أعداء الإسلام..
اقتباس : أما قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ، فالمراد بهذه "الكلية": ما يتعلق بالأصول والقواعد الكلية التي يقوم عليها بنيان الدين في عقيدته وشريعته، ومن هذه الأصول: أن الرسول مبين لما نزل إليه، وبعبارة أخرى (أن السنة مبينة للقرآن) لقوله: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم (النحل 44 )
إننا نقرأ في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)، أن الله نزّل على قلب رسوله (ص) كتاباً كاملاً موضحاً لكل أمر يحتاج إلى تبيان. فقوله سبحانه وتعالى، وهو أصدق القائلين: تبياناً (لكل شيء) هو قولٌ في غاية الوضوح ولا يقبل التأويل، أما تأويل الشيخ الفاضل بحصر هذه "الكُلية" بالأصول والقواعد الكُلية فليس عندنا بشيء. نقول هذا ونحن نستذكر قول الحق سُبحانه:
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ (فَصَّلْنَا الآيَاتِ) لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُ
مروان محد عبدالهادى
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود: 88)
كثُرَ الحديث وكثرت التناقضات وكثرت الأسئلة حول السنة النبوية هل هي وحيٌّ ودينٌ ومصدر تشريع ثانٍ؟ فإذا كانت كذلك، فلماذا لم تحفظ من التحريف والزيادة والنقصان، والتناقض والتضارب كما حفظ القرآن؟ وهل هي شارحة للتنزيل الحكيم؟ فإذا كانت السنة النبوية شارحة لكتاب الله تعالى كما يزعم رجال الدين، فأين هذا الشرح المزعوم وهناك سوراً بأكملها لم يشرح الرسول (ص) منها حرفاً واحدا، وفي نفس الوقت بين أيدينا عشرات التفاسير، إن اتفقت على مدلول آية اختلفت في غيرهاّ؟
لقد تعددت مفاهيم السُنة النبوية لدى علماء الدين، ووضع (بعضهم) لها تعريفات ما أنزل الله بها من سلطان، وقلَت اجتهادات (بعضهم) القرآنية وكثرت آراؤهم الشخصية وتباينت فيما بينهم، وكل أدلى بدلوه، فباتت سُنته (ص) ناسخة لكتاب الله تعالى وقاضية عليه، مُعلِلين ذلك بقولهم "القرآن أحوج إلى السُنة أكثر من حاجة السُنة إلى القرآن"! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون.
القول المشهور عند السادة العلماء، أن معنى السنة والحديث في الاصطلاح واحد، وهو كل ما نقل عن النبي (ص) من قول أو فعل، أو إقرار أو تقرير، أو صفة خلقية أو صفة خُلقية، حتى الحركات والسكنات.. في اليقظة والمنام! قبل البعثة أو بعدها!
فالتعريف الفقهي لمصطلح السُنة المتعارف عليه عند السادة العُلماء ليس إلا وجهة نظر شخصية أصلها الإمام الشافعي، وليس النبي (ص) وهي قطعاً قابلة للنقاش والأخذ والرد، ولا تحمل أية قداسة. وانطلاقا من هذا المُصطلح الشخصي المُبتدع (السُنة، الحكمة، أو الوحي الثاني) الذي أوجده الإمام الشافعي، وبني عليه طاعة إلهية، أدخل المُسلمين في خلافات وتناقضات ومتاهات، نُعاني من أثارها في كل ساعة من ساعات اليوم الواحد،، مُعتبرين أفعال النبي (ص) حتى الشخصية منها، كإطلاق اللحى والسِواك أو كونه (ص) كان يأكل بيده اليُمنى، ويأكل التمر، أو يتبولَ قائماً أو جالساً! أو استخدامه للعود الهندي، وأنه كان صلوات الله عليه، ينام على جنبه الأيمن مصدراً من مصادر التشريع!
فالمُدقق المُتجرد في فقه الإمام الشافعي يرى بوضوح الدور الرئيس الذي لعبه هذا الفقيه، في الخلط بين أسلوب النبي (ص) الإنساني الشخصي في الحياة، وبين التشريعات الربانية، وكيف أصلّ فهمه للسُنة النبوية التي اخترعها بربطِها مُباشرة بطاعة الله تعالى، حيث نجده يقول في كتابه الرسالة:
اقتباس : فيُجمع القبول لما في كتاب الله ولسُنة رسول الله، القبول لكل واحد منهما عن الله ، وإن تفرع فروع الأسباب التي قبل بها عنهما، كما أحلَ وحرَم، وفرض وحدَ: بأسباب مُتفرقة كما شاء جلَ ثناؤه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء:23) (انتهى)
إننا لا نجد لمُصطلح السُنة المُبتدع والمُعرف أعلاه، أية ذكر أو نص قرآني ظني أو قطعي في كتاب الله تعالى سوى بعض الآيات التي استشكل فهمها على السواد الأعظم من المسلمين، أو بعض الأحاديث المكذوبة على رسول الله (ص) لذا كان لا بدَّ لنا من تدبر آيات التنزيل الحكيم حتى يتيسر لنا الحكم بأصل هذا المُصطلح، حيث ورد مُصطلح (سُنة) في أربعة مواضع في التنزيل الحكيم من دون الإشارة ولو لمرة واحدة لسُنة الرسول (ص) البشر المخلوق، القاضية حسب المفهوم الفقهي المُبتدع على كتاب وأحكام خالقه المُحكمة.. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (الأنعام: 10) نقف خاشعين أمام قول الله تعالى:
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ (لِسُنَّةِ اللَّهِ) تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (فاطر:43)
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ سُنَّةَ مَن قَدْ رْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ( الإسراء: 76- 77)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (غافر: 84-85)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الفتح:23)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الأحزاب:62)
بعد رحيل رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، ومنذ اللحظة الأولى، نشأت مُشكلة وراثة الدولة التي أسسها النبي (ص) فادعى كل طرف من المهاجرين والأنصار بأنه الوريث الأحق لزعامة هذه الدولة الفتية، وكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار سياسياً لكنهم كانوا سباقين في نشر الرسالة، وفي تأسيس وتثبيت دعائم الدولة التي كُبرت. وبعد مقتل عُثمان بن عفان عام 35 ه حصلت الفتنة الكُبرى في الإسلام بين معاوية بن أبي سُفيان الذي كان حديث العهد بالإسلام (1) وعلي بن أبي طالب، هُزم فيها الأخير، وبعد التحكيم الشهير أصبح معاوية السُلطان الأول للُسنة في الإسلام.. وتمت تسمية الذين اتبعوا علي بن أبى طالب (الشيعة) والذين خرجوا عليه (الخوارج) (2) في موقعة صفين الفاصلة (3) وهكذا انقسم المسلِمون إلى طوائف ثلاث، أكبرهم طائفة المُنتصر، أهل السُنة والجماعة، (4) التي أنهت المرحلة الراشدة بشكل مُرعب، فعمَ الحديث واستشرى بين المسلمين ورُفع إلى مستوى القرآن، لذا فإن الأحاديث اَلْمُتَدَاوَلَة بين أتباع الفهم المغلوط للسُنة النبوية، وما يُطلق عليه جزافاً بالأحاديث الصحيحة..ليست إلا أحاديث مليئة بالطمي والرمم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير، بالرغم من قول الحق سُبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النحل:105)
لقد تلاقت أهداف السلطان مع أهداف (البعض) من أهل الكتاب للعبثِ بدين الله تعالى وتحريفه، رغم اختلاف مصلحة كل فريق، فالهدف الرئيس (للبعض) من أهل الكتاب عقائدي، بينما كان هدف السلطان مادياً وسياسي، لقد كان من المستحيل على الطرفين، تحريف كتاب الله تعالى والعبث به، فتضافرت الجهود لإيجاد وسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف المنشودة، فتمخض عن هذه الجهود ولادة الأحاديث على رسول الله (ص) وبِدعة السُنة النبوية بمفهومها الفقهي الحالي الذي أصله الإمام الشافعي، رحمه الله. إن أصل البدعة مشروع سياسي غُلف بغلاف ديني، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر. لقد اختلفت الأسباب، وكان الهدفُ واحد.
شرعية الأمويين والعباسيين
لم يجد الباحثون عن الشرعية في خلافة النبي (ص) من الأمويين والعباسيين إلا الاتكاء على آيات الإرث وآيات طاعة أولي الأمر لشرعنة مطلبهم، فالأمويون اتخذوا من طاعة أولي الأمر غِطاء أيديولوجيا وتكريساً لواقع قضاء الله وقدره ولا سبيل لرده، واعتبروا المعارضين لحكمهم، إنما هم يعارضون قضاء الله وقدره، وقد كان علماء السوء (علماء السلطان) خير معين للأمويين في اختراع تعريف مشوه للقضاء والقدر لتثبيت حكمهم، وهو أن قضاء الله تعالى هو علمه الأزلي، والله تعالى يعلم منذ الأزل بأن بني أمية سيتولون مقاليد الحكم، ولا رَادِّ إلى وقف القدر القاضي بنفاذ هذا القضاء.
في حين ابتدع عُلماء السُلطان للعباسيين الأقرب للنبي (ص) قاعدة فقهية سافرة أُدخلت على أحكام آيات الإرث والوصية، وهي أن البنت لا تحجب، لتكون غِطاء أيديولوجياً لشرعنة حكمهم وحقهم في ميراثه، ووضع حديث نُسب إلى النبي (ص) وهو حديث (لا وصية لوارث) وهو من أحاديث الآحاد، أخذه الأمام الشافعي من أهل المغازي، (كتب المغازي تحوي الغث والسمين من روايات السيرة النبوية) رغم إنكار الأخير في كتابه "الرسالة" لأحاديث الآحاد في مجال العقائد، فكان تناقضه مع الذات مثيراً للدهشة، ولكن ليس للاستغراب، فمداهنة البعض للحكام قد تتطلب موقفاً مُماثلا، خاصةً إذا وجد هذا البعض نفسه أمام مُفترقات خطرة، وبذلك تأسست أخطر سابقة عرفها التاريخ الإسلامي، وهي أن السُنة (الحديث النبوي) ناسخة للقرآن، وأن القرآن أحوج إلى السُنة من السُنة للقرآن! إن القارئ الفطن لا يحتاج إلى دكتوراه في علوم القرآن واللغة حتى يفهم المُراد من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ( النساء 11 )
فالله سُبحانه وتعالى في هذه الآية الواضحة، يوصينا في أولادنا، ذكوراً وإناثاً، وأن الولد قد يكون ذكراً وقد ويكون أنثى. وهنا نتوقف لنسأل السادة العُلماء، والفقهاء، والمحدثين من حملة الشهادات العُليا، هل الأولاد هم حصراً الذكور أم فيهم الإناث؟ وهل الوالدات يُرضعن الذكور فقط من دون الإناث؟ أين أنتم من قول الله تعالى: الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( البقرة: 233)
نعم، لقد استفرد سلاطين بني العباس بالحكم بعد أن أُخرجت ابنة رسول الله (ص) وأبنائها من اللُعبة السياسية من جهة، وصارت الأنثى لا تحجب منذ ذلك الحين من جهة أخرى، وأهدرت نصف حقوقها من الإرث وتشتت على أعمامها بدون وجه حق (هؤلاء الأعمام لا نجد لهم ذكراً في آيات المواريث!)
للأسف الشديد كان الإمام الشافعي على رأس المُبتدعين، فإن قال بأن البنت ولد، وبأنها تحجب كالذكر تماماً ، اتهمه العباسيون بالتشيع! وإن جانب الحق صار مارقاً، وهما خياران أحلاهما علقما عند العباسيين، وبذلك تم إبعاد ابنة رسول الله (ص) كوارثة، كما تم إبعاد الخليفة الرابع على كرَم الله وجهه، باعتباره ابن عم النبي (ص) والعم أحق وأولى، وصار الولد ذكراً، بالرغم من قول الحق سُبحانه وتعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (النساء: 11)
وحتى لا نُتهم بأننا نهرف بما لا نعرف، فسوف نقتبس حرفياً ما رواه الطبري في تاريخه: المُجلد الحادي عشر النسخة الإلكترونية نصوصاً من الرسائل المُتبادلة بين أبي جعفر المنصور وبين الإمام محمد بن عبدا لله المُلقب بالنفس الزكية، الذي خرج على طاعة أبي جعفر المنصور وحكم بني العباس مُستنكراً بطشه في الطلابيين:
أرسل المنصور رسالة إلى الإمام يدعوه فيها إلى التوبة مُقابل الأمان له ولمن بايعه، فرد الإمام بدعوة المنصور إلى الدخول في طاعته وبيعته آمناُ على نفسه وماله، يقول فيها: "وأنا أولى بالأمر منك وافى بالعهد، لأنك أعطيتني من الأمن والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني، أمان هبيرة أم أمان أبي مُسلم؟"
لكن الإمام أسهب في مطلع رسالته بالاعتداد بنسبه إلى فاطمة والنبي (ص) وبأرومته المُمتدة إلى الإمام عليّ كرم الله وجهه، فيقول،" وإن أبانا عليٌ كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده على قيد الحياة؟ ويُتابع قائلاً، وأني أوسط بين هاشم نسبا وأصرحهم أباً، وأمي لم تعرق في العجم، ولم تُنازع في أمهات الأولاد." لم يأت رد المنصور على مُفاخرة الإمام بنسبه إلى فاطمة والنبي (ص) وبأرومته المُمتدة إلى الإمام عليّ كرم الله وجهه عرضياً أو مُبطناً، بل كان صريحاً وحاسماً، ويُبين بجلاء ارتكاز العباسيين على آيات الإرث في شرعنه حكمهم. يقول المنصور:
"فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتُضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أباً، وبدأ به في كتابه على الولد الأدنى، فقال جلّ ثناؤه عن نبيه يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (يوسف: 38)" ويُتابع المنصور قائلاً: “"وأما قولك: إنكم بنو رسول الله (ص) فإن الله تعالى يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب:40) ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها، ولقد جاءت السُنة التي لا خِلاف فيها بين المُسلمين؟ (أن الجد أبا الأم، والخال والخالة لا يرثون؟)" (انتهى)
لم يجد بني العباس بُداً من إبعاد الناس عن نصوص القرآن الكريم لتثبيت العقيدة الجديدة، عقيدة الروايات، التي من شأنها أن تخدم السُلطان وحده، فتم إضافة الأحاديث التي تؤيد العباسيين وأحقيتهم في الحكم والتركيز على الروايات التي توجب أن يكون الحكم للقرشيين من دون القبائل الأخرى. أرجو أن لا يغيب عن ضمير الباحث المُتجرد النزيه، بأن الإمامين البُخاري ومُسلم، عاشا تحت سيطرة وسطوة سلاطين بني العباس، وكان لا يُسمح إطلاقاً بمُهاجمة الأحاديث التي كان لها السُلطة الفعلية في إصدار الفتاوى والقوانين، التي ربما وضعت حدوداً على ما يمكن نشره، أو حتى كانا مُكرهين ولم يستطيعا التعبير الصادق عن رأيهما، فدخل إلى صححيهما الكم الكبير من الأحاديث الموضوعة التي أساءت إلى الإسلام والمسلمين، وأصابتهما في مقتل.
إن أصحاب الفهم المغلوط للسُنة النبوية يتكئون على ما يُسمى بالحديث النبوي الظني، والمُمتلئ بالإسرائيليات، وألطم والرمم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير، ولن نزيد، كمصدر للدين والعلم، معُتبرين هذه الأحاديث وحياً إلهياً ثانيا، وسُنة رسول الله (ص) القولية، بل ويصفون الصحيحين، على أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله! والمُحزن جداً بأن السواد الأعظم من المُسلمين قد سلمّ بهذه المُغالطة تحت طائلة التكفير والنفي، فالمُمعن في دراسة هذه الكتب لا يجد فيها من الصحة إلا القليل النادر، فإن ثبتت عند البخاري نفاها مُسلم، فالحديث صحيحٌ فقط في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته، وأن ما يُقال عنه "مُتفق عليه" ليس المُراد أنه مُتفق على صحته في الأمر، وإنما المُراد أن البُخاري ومُسلم قد اتفقا على إخراجه، (5) بعد أن أهمل عُلماء الحديث جميعاً أمراً خطيراً، وهو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي (ص)
وقد يكون خافياً على السواد الأعظم من المسلمين، بأن الأحاديث النبوية الظنية الثبوت، قد نُقلت إلينا بالمعنى، وإن جهد السادة العُلماء بإقناعنا بدقة الرواة، وما تناقض الأحاديث مع التنزيل الحكيم من جهة، ومع العقل والعلم من جهة ثانية، إلا دليل على ذلك. هذه الحقيقة قد تم التستر عليها من قبل رجال الدين الذين جعلوا من رواد المساجد أشرطة تسجيل صماء بكماء عمياء، يُساقون إلى مُستنقعات من الجهل كما تُساق الخِراف إلى السلخ، تحت شعار الحديث المكذوب على رسول الله (ص) العلماء ورثة الأنبياء!
لقد طرحنا سؤلاً هاماً وحتى الساعة لم نسمع جواباً: كيف يكون في وحيّ الله تعالى، المتواتر، المشهور، الصحيح، الحسن، الضعيف، المرسل، المُنكر، المعروف، المتابع، المتروك، المعنعن، العزيز، الغريب، المُعلل، المُضطرب، المدرج، والمغلوب، المسند، المرفوع، والموقوف، الموصول، المقطوع، المقطع، المُعضَل، المُدّلَس، الشاذ، المحفوظ، الموضوع،– المسلسل، المُصحَف، المؤتلف، المُتفق، المُفترق، المُتشابه، العالي، النازل، الناسخ، المنسوخ؟
كتب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على صفحات موقعه الإلكتروني مؤكداً ما ذهبنا إليه، الآتي:
اقتباس : أن السنة من أجل ذلك دخلها المنكر والموضوع، وما لا أصل له من الحديث ، فضلا عن الضعيف والواهي وما لا يصلح للاحتجاج به، واختلط الحابل بالنابل، فلم يعد في الإمكان التمييز بين ما يصح وما لا يصح، وصحيح. (انتهى)
هل الأحاديث النبوية وحيّ مُنزل؟
الوحيّ في معاجم اللغة: لسان العرب: الوَحْيُ، الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك.
مقاييس اللغة: وحيّ، الواو والحاء والحرف المعتلّ، أصلٌ يدلُّ على إلقاء عِلْمٍ في إخفاء أو غيره إلى غيره. يقول الحق سُبحانه وتعالى:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( الأنعام: 19)
وَكَذَلِكَ (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً) عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(الشورى: 7)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: 3 )
وَاتْلُ مَا (أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (الكهف:27 )
اتْلُ مَا (أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( العنكبوت: 45 )
وَالَّذِي (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (فاطر: 31)
إن المُتأمل في هذه الآيات، يرى بوضوح لا يقبل اللُبس. فالله تعالى هو الذي أوحى، والرسول (ص) هو الذي أُوحي إليه، والتنزيل الحكيم"إن هو وحيَ" الكلام الخفي ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) لقد ساور مُعظم العرب الشك في ( الكلام الخفي ) الذي كان يتنزل على قلب رسول الله (ص) فالوحيَ كان موضوع التساؤل والشك، ولم تكن المُشكلة قطعاً في أقوال الرسول (ص) وأفعاله أو في سلوكه الشخصي. أنظر إلى قوله تعالى: وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (القلم: 51)
ففي التنزيل الحكيم فإننا نقرأ: وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (قَالَ)إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿البقرة: 124﴾ فهل يصح أن نقول: نطق الله،؟ فالتنزيل الحكيم قول الله تعالى ونطق رسوله الكريم، فإن قلنا نطق الله فقد كذبنا، وإن قلنا قال رسول:إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ الله فقد أمعنا في الكذب.
وثمة من يوجه إلينا سؤلاً مشروعاً، أليست الحكمة في كتاب الله هي السُنة النبوية، ألم يقل الحق سُبحانه وتعالى: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 )
نُجيب بما روي عن رسول الله (ص) إن صّحّ عنه: "الحكمة ضالة المُؤمن أينما وجدها ( أخذها ) وفي رواية هو أحق بها ( الترمذي 611 ) وهذا الحديث إن صحَ عن رسول الله (ص) فإنه يؤكد بأن الحكمة ليست وحياً، قد تأتي الحكمة وحيَاً وقد لا تأتي، أي ليس لِزاماً لها، فهي ليست إلا تعاليم عامة أخلاقية مقبولة إنسانياً لكل أهل الأرض، وغير مقصورة على الأنبياء، بل أنها تجري على ألسن الحُكماء في كل زمان ومكان حتى قيام الساعة. فلُقمان لم يكن نبياً، كقوله سُبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (لقمان: 12 ) وقوله أيضا:ً
يؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
وحيَ أم وحيين ؟ هل الحكمة هي السُنة؟
يعتبر الإمام الشافعي وبدون أن يُقدم دليلاً واحداً من آيات الكتاب، أو حتى الحديث النبوي الذي اعتمده هو نفسه في استنتاجه، بأن الحكمة في كتاب الله تعالى هي السُنة النبوية، حيث نجده يقول في البيان الرابع من كتابه "الرسالة"
اقتباس: كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذكر ما منَ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة، دليلٌ على أن الحكمة سُنة رسول الله، وفي موضع آخر من نفس الكتاب نجده يقول:
فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سُنة رسول الله ، وهذا ما يُشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر اتبعته الحكمة، وذكر الله مّنَه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يُجوز- والله أعلم - أن يُقال الحكمة هنا إلا سُنة رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع الكتاب، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس إتباع أمره، فلا يجوز أن يُقال لقولٍ فُرض إلا لكتاب الله وسُنة رسوله لما وصفناه من أن الله جعل الإيمان برسوله قروناً بالإيمان به. ( انتهى )
ذهبنا إلى كتاب الله تعالى فبحثنا في آياته، ووجدنا أن مدلول كلمة الحكمة لا يشير لا من قريب أو بعيد إلى مُصطلح السُنة النبوية، لنتأمل قول الحق سُبحانه وتعالى: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء:13)
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الزخرف:63)
أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء: 54)
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (الأحزاب:34) لنتدبر إحدى الآيات القرآنية التي تموضعت في حقلها الحكمة، يقول سُبحانه وتعالى:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (- الإسراء: 36- 39)
فإذا ما عدنا إلى قوله تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (البقرة: 269)
يتبين لنا بشكل قاطع بأن الحكمة لا تحتاج إلى نبوة ولا إلى رسالة، فلقمان أوتي الحكمة وهو ليس بنبي ولا برسول بدلالة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ إِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد (لقمان: 12) والسؤال الذي نطرحه على أصحاب الاختصاص والذي يفرض نفسه بقوة: إذا كانت الحكمة هي السُنة، فأين هي السُنة عند نوح وهود شعيب وصالح وموسى وعيسى، وإسماعيل وإبراهيم ويوسف، وهؤلاء جميعاً يشملهم قول الحق سُبحانه في الآيات التي استشهدنا بها؟
إن المُدقق في مرامي لفظ الحكمة التي وردت في سياق الآيات الكريمة، يرى بوضوح لا لبس فيه، بأن آيات الحكمة خالية من التشريعات أو الأحكام، وبالتالي فإنه لا يُبنى عليها أحكامٌ شرعية أو عقائدية، ومن المُفيد استعراض بعض أحاديث الحكمة التي نُسبت إلى رسول الله (ص) "إن صحت عنه"
لا ضرر، ولا ضِرار (ابن ماجة 2331)
دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك (الترمذي 2442)
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراُ أو يصمت (البخاري 5550)
لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه (البخاري 12)
المُسلم من سلم الناس من يده ولسانه (البخاري 9 )
وهنا لنا وقفة مع عُلماء النقل.. إذا كانت السُنة هي الحكمة، لماذا لم يُعرفها الرسول (ص) للمسلمين بنفسه؟ ولماذا لم يأمر بجمعها وكتابتها إلى جانب كتاب الله؟ وهل يصح أن يدع نصف ما أوحى الله تعالى إليه يغدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك، ويتزيد فيه هذا وذاك؟ وهل يكون الرسول (ص) قد بلغ الرسالة على وجهها، وأدى الأمانة كلها؟ ثم كيف كان حال المسلمين الذين قضوا قبل أكثر من قرن ونصف من ولادة الإمام الشافعي، الذي ولد سنة 150 وتوفي 205 ه، دون أن يعرفوا بأن الحكمة هي سُنة رسول الله وأنها المصدر الرديف لشرع الله تعالى وأوامره؟
هل السُنة النبوية شارحة لكتاب الله مُبينة لأحكامه؟
لقد أجمع عُلماء الأمة سلفاً وخلفاً، وعلى رأسهم الإمام الشافعي، بعد أن استشكل عليهم فهم المُراد بقوله تعالى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) على أن السُنة شارحة لكتاب الله مُبينة لأحكامه، فقول الحق سُبحانه، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:44) تأمر الرسول (ص) بأن يُظهر ولا يكتم ما نُزِلَّ إليه (ص) من الذكر الحكيم (أمرٌ بالإظهار والإبانة وعدم الكتمان) بدلالة قوله تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا (يُبَيِّنُ) لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ (تُخْفُونَ) مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (المائدة:15)
إِنَّ الَّذِينَ (يَكْتُمُونَ) مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا (بَيَّنَّاهُ) لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة:159)
أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ (لَتُبَيِّنُنَّهُ) لِلنَّاسِ (وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (آل عمران: 187)
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى (يَتَبَيَّنَ) لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (البقرة:187)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا (تَبَيَّنَ) لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيم (التوبة: 114)
يقول الشيخ الألباني رحمه الله، في رسالة بعنوان "منزلة السنة في الإسلام" وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن، يقول فيها:
اقتباس: "تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته، واختصه برسالته، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم، وأمره فيه - في جملة ما أمره به أن يبينه للناس، فقال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم (النحل:44) والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشمل على نوعين من البيان." (انتهى)"
لأول : بيان اللفظ ونظمه وهو تبليغ القرآن وعدم كتمانه وأداؤه إلى الأمة ، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو المراد بقوله تعالى: ( يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك ) (المائدة:67) وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنه في حديث لها "ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه: فقد أعظم على الله الفرية"، ثم تلت الآية المذكورة " (أخرجه الشيخان) ، وفي رواية لمسلم، " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (الأحزاب:37)
والآخر: بيان معنى اللفظ، أو الجملة، أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة، أو العامة، أو المطلقة، فتأتي السنَّة" فتوضح المجمل، وتُخصِّص العام، وتقيِّد المطلق، وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم، كما يكون بفعله وإقراره. (انتهى)"
نُقدر اجتهاد الشيخ، رحمة الله عليه، ونتفق معه بأن بيان اللفظ ونظمه، هو تبليغ القرآن، وعدم كتمانه، وأداؤه إلى الأمة ، كما نزله الله تبارك وتعالى على قلب رسول الله (ص) ونختلف معه في أن السُنة مُبينة ومُفسرة، فتوضح المُجمل، وتُخصص العام، وتُقيد المُطلق. فقول الله سُبحانه:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً (لِّكُلِّ شَيْءٍ) وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين ( النحل 89 ) يدحض إدعاء الشيخ وينسفه.. فقوله سُبحانه في غاية الوضوح: وَنَزَّلْنَا الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء.
كتب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، أحد العلماء البارزين، والدعاة المشهورين، والمصلحين المعدودين على أهل السُنة والجماعة، وعلى صفحات موقعه الالكتروني وفي مُجمل رده على شُبهات أعداء الإسلام..
اقتباس : أما قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ، فالمراد بهذه "الكلية": ما يتعلق بالأصول والقواعد الكلية التي يقوم عليها بنيان الدين في عقيدته وشريعته، ومن هذه الأصول: أن الرسول مبين لما نزل إليه، وبعبارة أخرى (أن السنة مبينة للقرآن) لقوله: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم (النحل 44 )
إننا نقرأ في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)، أن الله نزّل على قلب رسوله (ص) كتاباً كاملاً موضحاً لكل أمر يحتاج إلى تبيان. فقوله سبحانه وتعالى، وهو أصدق القائلين: تبياناً (لكل شيء) هو قولٌ في غاية الوضوح ولا يقبل التأويل، أما تأويل الشيخ الفاضل بحصر هذه "الكُلية" بالأصول والقواعد الكُلية فليس عندنا بشيء. نقول هذا ونحن نستذكر قول الحق سُبحانه:
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ (فَصَّلْنَا الآيَاتِ) لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُ
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر