يوسف عليه السلام ومكر امرأة العزيز
د. عادل أحمد الرويني
قال تعالى:”وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همّت به وهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين،واستبقا الباب، وقدَّت قميصه من دُبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاَّ أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قُدَّ من دُبُر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حُبّاً إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأً وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فلذلكن الذي لمتنني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجننَّ وليكوناً من الصاغرين، قال رَبِّ السجن أحَبُّ إليَّ مما يدعونني إليه. والاّ تصرف عني كيدهن أصبُ إليهنّ وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجُنُنَّه حتى حين” (يوسف 23 - 35).
بينت في المقالة السابقة المراد من قوله تعالى:
“ولقد هَمَّت به وَهمَّ بها” وقلت: إن هَمَّ امرأة العزيز بيوسف كان بالفعل، وكانت مُصرة عليه، حيث كانت تريد أن يواقعها، أما همّ يوسف - عليه السلام - بها فكان هَمَّ النفس ولم يكن عازماً عليه، ولم يكن له اختيار في دفعه على ما تقتضيه الطبيعة البشرية. وقلت أيضاً إن ذِكْر القرآن الكريم لِهَمَّ يوسف فيه دليل على فحولته ورجولته الكاملة، حيث لم يكن عاجزاً عن إتيان النساء، وهذا مما يُعلي كرامة يوسف عليه السلام وطهارته ونقائه وإخلاصه لله تعالى وشدة مراقبته له - سبحانه، حيث كان قادراً على المواقعة ولم يفعل خوفاً ومراقبة لربه سبحانه، وقلت: لا فضل لعاجز في الكف عن الفعل في هذا المقام، وإنما الفضل كل الفضل لمن يستطيع فيكف.
ولنستكمل بقية التحليل لتلك الفتنة العظيمة التي تعرض لها يوسف عليه السلام.
عصمة يوسف
تأمل قوله تعالى: “كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء” تجد أن الإشارة في قوله “كذلك” تعود على الحجة أو البرهان الذي يدل على فظاعة جريمة الزنا، أو تعود الإشارة إلى لازم هذا البرهان وهو تثبيت الله ليوسف عليه السلام في هذا الموقف وربطه على قلبه.
وفي إسناد الفعل (نصرف) لنون العظمة وبناء الفعل للمعلوم على الأصل، حيث لم يقل مثلها: كذلك لأصرف، أو كذلك لِيُصرَفَ بالبناء للمجهول، في هذا دلالة على شدة العناية الإلهية والرعاية والحفظ ليوسف عليه السلام، وهذا الإسناد يتناسب مع التعبير بلفظ الربوبية ومدلوله في “لولا أن رأى برهان ربه” كما بينت من قبل مدلول الربوبية، والمراد بالصرف في الجملة عصمة يوسف عليه السلام من الوقوع في الذلل، وعُبِّر عن العصمة بالصرف للدلالة على توفر أسباب حصول الفاحشة والخيانة، ولكن الله صرفهما عن عبده، وفي قوله تعالى: “لنصرف عنه السوء والفحشاء” كناية عن صفة وهي الحفظ والوقاية، والمراد بالسوء خيانة السيد أو مقدمات الفحشاء أو كل ما يسوء وهذا المعنى الأخير هو ما أرتاح إليه، لأنه يدل على أنه عليه السلام صُرِفَ عن جنس السوء كله ولم يُصْرف عن شيء معين منه وهذا يتناسب مع المبالغة في التعبير بنون العظمة في قوله “لنصرف”، والمراد بالفحشاء: الزنا، ويكون ذكرها بعد قوله “السوء” من باب ذكر الخاص بعد العام، لأنها تندرج تحت مفهوم السوء باعتبار (أل) للجنس في كلمة السوء فالسوء يشمل كل قبيح من القول أو الفعل مما تأباه الطباع الكريمة، وبالطبع فجريمة الزنا والعياذ بالله من أشد أنواع السوء، وبلاغة ذكر الخاص بعد العام هنا التأكيد على فظاعة تلك الجريمة، وأنها من القبح والاناءة بحيث تذكر وحدها في اللفظ وإن كانت مندرجة في اللفظ السابق، ومن شواهد ذكر الخاص بعد العام أيضاً قوله تعالى: “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى” ذكرت الصلاة الوسطى بعد الصلاة وهي مندرجة تحتها.
جمع وإفراد
“واستبقا الباب” فيوسف يريد الفرار بدينه وأخلاقه، يريد الفرار من المعصية، والمرأة تلاحقه وتريد أن تمنعه من الخروج، لذا فهي تريد أن تسبقه إلى الباب قبل أن يصل إليه ليهرب منها، وكان الظاهر أن يتعدى الفعل (استبق) إلى المفعول بحرف الجرد (إلى) فيقال: واستبقا إلى الباب، ولكن تعدى الفعل إلى مفعوله من دون (إلى) (للدلالة على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق) 1
ويثير قوله “واستبقا الباب” سؤالا مفاده: لماذا جمع الأبواب في قوله “وغلقت الأبواب” وأفردها هنا؟
والجواب عن ذلك هو أن إغلاق الباب للاحتياط لا يتم إلا بإغلاق جميع أبواب الدار، ولذا جمعت في قوله تعالى “وغلّقت الأبواب” فالمرأة قد احتاطت لتنفيذ رغبتها بإغلاق جميع الأبواب حتى لا تفاجأ بمن يقطع عليها ما أرادته، أما إفراد الباب في قوله “واستبقا الباب” فلأن يوسف عليه السلام كان يريد الهرب منها، وهذا لا يكون إلا من باب واحد، لأن خروجه في وقت هربه لا يتخيل من جميع الأبواب، بل من باب واحد منها، وأول باب يقصد للهرب الباب الأقرب، حيث إن الخروج من بقية الأبواب موقوف عليه، لذلك أفرد لفظ الباب في قوله تعالى “واستبقا الباب”.
إذن يوسف - عليه السلام - يحاول الفرار إلى الله بدينه، يريد أن يصل إلى الباب ليخرج والمرأة تلاحقه من أجل تنفيذ صبوتها ولتمنعه من الهرب، وقد استطاعت أن تجذب قميصه من الخلف فشقته “وقدت قميصه من دبر”.
ثم كانت المفاجأة التي لم تحسب لها امرأة العزيز حساباً “وألفيا سيدها لدى الباب” والإلفاء كما قال الطاهر بن عاشور “وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مباغتا” لقد فوجئت بزوجها عند الباب، وقيل (سيدها) ولم يُقل: سيدهما، لأن مِلْك يوسف لم يكن قائماً على أصل صحيح حيث لم يكن مسترقاً في الأصل ولم يكن قطفير (العزيز) سيدا له في الحقيقة، وأحسب أن في هذا أيضاً تنزيها إلهيا ليوسف عليه السلام لأن ينسب إلى غير خالقه - سبحانه -، لذا لم يقل: سيدهما وكيف ينسب إلى غير الله وقد وصفه ربه بقوله: “إنه من عبادنا المخلصين”؟ فهو عبد لله وليس لمخلوق. والله أعلم وقيل: المراد بالسيد في الآية الزوج، لأن القبط يسمون الزوج سيدا.
انظر إلى كيد المرأة، وإلى صنيعها عندما فوجئت بزوجها، إنها لم تتلعثم ولم تضطرب بل “قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم” لقد استخدمت الحيلة الماكرة لتدفع عن نفسها جريمة المراودة وجريمة التبذل وطلب الوقاع، فقالت تلك المقالة لتستر على نفسها، فنسبت ما كان منها إلى يوسف - عليه السلام -.
كلام خبيث
ومن خلال تدبرنا لكلامها الذي حكاه القرآن نلحظ ما يأتي:
أولاً- المراد بالسوء في الجملة هنا الزنا، و(ما) في قولها (ما جزاء) استفهامية أو نافية، والمعنى على الأول: أي شيء جزاؤه أو أي جزاء يستحقه من أقدم على فِعْلِ هذا؟
ثم أجابت عن استفهامها ولم تترك لزوجها فرصة للإجابة فقالت “إلا أن يسجن أو عذاب أليم”.
والمعنى على التوجيه الثاني ل (ما): ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب.
ثانياً- أرادت المرأة بقولها هذا تبرئة ساحتها، وإجبار يوسف عليه السلام للخضوع لتحقيق رغبتها كُرْها بعد أن رفض طواعية، وذلك من خلال وعيده وتهديده، وتأمل قولها في آية أخرى و”لئن لم يفعل ما آمره به ليسجننَّ وليكوناً من الصاغرين”.
ثالثاً: لم تصرح بذكر يوسف - عليه السلام - في قولها السابق بل استخدمت لفظاً: يدل على العموم (من) للتهويل، وللمبالغة في تخويف يوسف - عليه السلام - وكأن هذا الجزاء المقترح قانون عام يطبق على كل من يقدم على تلك الفعلة كما تزعم؟ وتأمل قولها “من أراد” بالتعبير بالفعل الماضي، حيث جعلت إرادة يوسف لها بالسوء أمرا محققا ثابتاً يُخبر عنه، ثم إنها أرادت أن تثير حمية زوجها وتستزيد غضبه فقالت “بأهلك سوءاً” فذكرت نفسها بأنها أهله، حيث لم تقل: من أراد بي سوءاً، أو من أرادني بسوء.
رابعاً: صاغت امرأة العزيز كلامها بطريقة خبيثة فلقد كانت تريد ألا يشعر زوجها بأنها تهوى يوسف عليه السلام لذا فإنها اقترحت العقاب، كما أنها ارادت إلقاء الرعب في قلب يوسف عليه السلام لئلا يتأبى عليها ويمتنع عنها مرة أخرى، كما كانت تخشى أن تكون محبة زوجها ليوسف مانعة له من عقابه.
خامسا: إذا تأملنا العقاب المقترح نجد فيه ما يدل على حبها ليوسف حيث لم تقترح قتله بل اقترحت أولا سجنه في قولها “إلاّ أن يسجن” وهذا يدل على أن سجنه يكون لمدة محددة، فالسجن غير دائم، ولو أرادت دوام سجنه لقالت: إلاّ ان يكون من المسجونين، كما قال فرعون في تهديده لموسى عليه السلام، “لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين” فاستخدم صيغة اسم الفاعل التي تدل على الثبوت. كما قدمت المرأة السجن على العذاب، لأنها لم ترد إيلامه. إذن اقترحت العقاب الذي يضمن لها بقاء يوسف عليه السلام حيا لعله يحقق رغبتها في يوم ما، واقترحت العذاب من أصله من أجل إبعاد الريبة عنها ومن أجل تخويف يوسف.
هذا كلامها فماذا كان جواب يوسف؟ “قال هي راودتني عن نفسي” فقدم المبتدأ (هي) على خبره الفعلي (راودتني...) فأفاد القصر، والقصر هنا للقلب، لأنه أراد أنها هي التي راودته لا هو، ولم يذكر يوسف اسمها فلم يقل: أنت راودتيني عن نفسي، ولم يستخدم اسم الإشارة أيضاً، وهذا غاية الأدب منه عليه السلام، فهو راعى مشاعر زوجها الذي أحسن إليه واستحيا منه وأخبر بضمير الغائب وهي حاضرة وكأنه يتحدث عن امرأة أخرى لدفع الضرر عنها، واحتراماً لصاحب البيت، وقد أضطر عليه السلام للرد لتنزيه نفسه عن التهمة ولتبرئة ساحته، وقد ألجأته المرأة لهذا حيث لم يبتدر بالكلام ولو سكتت لستر عليها. والله أعلم.
د. عادل أحمد الرويني
قال تعالى:”وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همّت به وهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين،واستبقا الباب، وقدَّت قميصه من دُبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاَّ أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قُدَّ من دُبُر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حُبّاً إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأً وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فلذلكن الذي لمتنني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجننَّ وليكوناً من الصاغرين، قال رَبِّ السجن أحَبُّ إليَّ مما يدعونني إليه. والاّ تصرف عني كيدهن أصبُ إليهنّ وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجُنُنَّه حتى حين” (يوسف 23 - 35).
بينت في المقالة السابقة المراد من قوله تعالى:
“ولقد هَمَّت به وَهمَّ بها” وقلت: إن هَمَّ امرأة العزيز بيوسف كان بالفعل، وكانت مُصرة عليه، حيث كانت تريد أن يواقعها، أما همّ يوسف - عليه السلام - بها فكان هَمَّ النفس ولم يكن عازماً عليه، ولم يكن له اختيار في دفعه على ما تقتضيه الطبيعة البشرية. وقلت أيضاً إن ذِكْر القرآن الكريم لِهَمَّ يوسف فيه دليل على فحولته ورجولته الكاملة، حيث لم يكن عاجزاً عن إتيان النساء، وهذا مما يُعلي كرامة يوسف عليه السلام وطهارته ونقائه وإخلاصه لله تعالى وشدة مراقبته له - سبحانه، حيث كان قادراً على المواقعة ولم يفعل خوفاً ومراقبة لربه سبحانه، وقلت: لا فضل لعاجز في الكف عن الفعل في هذا المقام، وإنما الفضل كل الفضل لمن يستطيع فيكف.
ولنستكمل بقية التحليل لتلك الفتنة العظيمة التي تعرض لها يوسف عليه السلام.
عصمة يوسف
تأمل قوله تعالى: “كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء” تجد أن الإشارة في قوله “كذلك” تعود على الحجة أو البرهان الذي يدل على فظاعة جريمة الزنا، أو تعود الإشارة إلى لازم هذا البرهان وهو تثبيت الله ليوسف عليه السلام في هذا الموقف وربطه على قلبه.
وفي إسناد الفعل (نصرف) لنون العظمة وبناء الفعل للمعلوم على الأصل، حيث لم يقل مثلها: كذلك لأصرف، أو كذلك لِيُصرَفَ بالبناء للمجهول، في هذا دلالة على شدة العناية الإلهية والرعاية والحفظ ليوسف عليه السلام، وهذا الإسناد يتناسب مع التعبير بلفظ الربوبية ومدلوله في “لولا أن رأى برهان ربه” كما بينت من قبل مدلول الربوبية، والمراد بالصرف في الجملة عصمة يوسف عليه السلام من الوقوع في الذلل، وعُبِّر عن العصمة بالصرف للدلالة على توفر أسباب حصول الفاحشة والخيانة، ولكن الله صرفهما عن عبده، وفي قوله تعالى: “لنصرف عنه السوء والفحشاء” كناية عن صفة وهي الحفظ والوقاية، والمراد بالسوء خيانة السيد أو مقدمات الفحشاء أو كل ما يسوء وهذا المعنى الأخير هو ما أرتاح إليه، لأنه يدل على أنه عليه السلام صُرِفَ عن جنس السوء كله ولم يُصْرف عن شيء معين منه وهذا يتناسب مع المبالغة في التعبير بنون العظمة في قوله “لنصرف”، والمراد بالفحشاء: الزنا، ويكون ذكرها بعد قوله “السوء” من باب ذكر الخاص بعد العام، لأنها تندرج تحت مفهوم السوء باعتبار (أل) للجنس في كلمة السوء فالسوء يشمل كل قبيح من القول أو الفعل مما تأباه الطباع الكريمة، وبالطبع فجريمة الزنا والعياذ بالله من أشد أنواع السوء، وبلاغة ذكر الخاص بعد العام هنا التأكيد على فظاعة تلك الجريمة، وأنها من القبح والاناءة بحيث تذكر وحدها في اللفظ وإن كانت مندرجة في اللفظ السابق، ومن شواهد ذكر الخاص بعد العام أيضاً قوله تعالى: “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى” ذكرت الصلاة الوسطى بعد الصلاة وهي مندرجة تحتها.
جمع وإفراد
“واستبقا الباب” فيوسف يريد الفرار بدينه وأخلاقه، يريد الفرار من المعصية، والمرأة تلاحقه وتريد أن تمنعه من الخروج، لذا فهي تريد أن تسبقه إلى الباب قبل أن يصل إليه ليهرب منها، وكان الظاهر أن يتعدى الفعل (استبق) إلى المفعول بحرف الجرد (إلى) فيقال: واستبقا إلى الباب، ولكن تعدى الفعل إلى مفعوله من دون (إلى) (للدلالة على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق) 1
ويثير قوله “واستبقا الباب” سؤالا مفاده: لماذا جمع الأبواب في قوله “وغلقت الأبواب” وأفردها هنا؟
والجواب عن ذلك هو أن إغلاق الباب للاحتياط لا يتم إلا بإغلاق جميع أبواب الدار، ولذا جمعت في قوله تعالى “وغلّقت الأبواب” فالمرأة قد احتاطت لتنفيذ رغبتها بإغلاق جميع الأبواب حتى لا تفاجأ بمن يقطع عليها ما أرادته، أما إفراد الباب في قوله “واستبقا الباب” فلأن يوسف عليه السلام كان يريد الهرب منها، وهذا لا يكون إلا من باب واحد، لأن خروجه في وقت هربه لا يتخيل من جميع الأبواب، بل من باب واحد منها، وأول باب يقصد للهرب الباب الأقرب، حيث إن الخروج من بقية الأبواب موقوف عليه، لذلك أفرد لفظ الباب في قوله تعالى “واستبقا الباب”.
إذن يوسف - عليه السلام - يحاول الفرار إلى الله بدينه، يريد أن يصل إلى الباب ليخرج والمرأة تلاحقه من أجل تنفيذ صبوتها ولتمنعه من الهرب، وقد استطاعت أن تجذب قميصه من الخلف فشقته “وقدت قميصه من دبر”.
ثم كانت المفاجأة التي لم تحسب لها امرأة العزيز حساباً “وألفيا سيدها لدى الباب” والإلفاء كما قال الطاهر بن عاشور “وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مباغتا” لقد فوجئت بزوجها عند الباب، وقيل (سيدها) ولم يُقل: سيدهما، لأن مِلْك يوسف لم يكن قائماً على أصل صحيح حيث لم يكن مسترقاً في الأصل ولم يكن قطفير (العزيز) سيدا له في الحقيقة، وأحسب أن في هذا أيضاً تنزيها إلهيا ليوسف عليه السلام لأن ينسب إلى غير خالقه - سبحانه -، لذا لم يقل: سيدهما وكيف ينسب إلى غير الله وقد وصفه ربه بقوله: “إنه من عبادنا المخلصين”؟ فهو عبد لله وليس لمخلوق. والله أعلم وقيل: المراد بالسيد في الآية الزوج، لأن القبط يسمون الزوج سيدا.
انظر إلى كيد المرأة، وإلى صنيعها عندما فوجئت بزوجها، إنها لم تتلعثم ولم تضطرب بل “قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم” لقد استخدمت الحيلة الماكرة لتدفع عن نفسها جريمة المراودة وجريمة التبذل وطلب الوقاع، فقالت تلك المقالة لتستر على نفسها، فنسبت ما كان منها إلى يوسف - عليه السلام -.
كلام خبيث
ومن خلال تدبرنا لكلامها الذي حكاه القرآن نلحظ ما يأتي:
أولاً- المراد بالسوء في الجملة هنا الزنا، و(ما) في قولها (ما جزاء) استفهامية أو نافية، والمعنى على الأول: أي شيء جزاؤه أو أي جزاء يستحقه من أقدم على فِعْلِ هذا؟
ثم أجابت عن استفهامها ولم تترك لزوجها فرصة للإجابة فقالت “إلا أن يسجن أو عذاب أليم”.
والمعنى على التوجيه الثاني ل (ما): ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب.
ثانياً- أرادت المرأة بقولها هذا تبرئة ساحتها، وإجبار يوسف عليه السلام للخضوع لتحقيق رغبتها كُرْها بعد أن رفض طواعية، وذلك من خلال وعيده وتهديده، وتأمل قولها في آية أخرى و”لئن لم يفعل ما آمره به ليسجننَّ وليكوناً من الصاغرين”.
ثالثاً: لم تصرح بذكر يوسف - عليه السلام - في قولها السابق بل استخدمت لفظاً: يدل على العموم (من) للتهويل، وللمبالغة في تخويف يوسف - عليه السلام - وكأن هذا الجزاء المقترح قانون عام يطبق على كل من يقدم على تلك الفعلة كما تزعم؟ وتأمل قولها “من أراد” بالتعبير بالفعل الماضي، حيث جعلت إرادة يوسف لها بالسوء أمرا محققا ثابتاً يُخبر عنه، ثم إنها أرادت أن تثير حمية زوجها وتستزيد غضبه فقالت “بأهلك سوءاً” فذكرت نفسها بأنها أهله، حيث لم تقل: من أراد بي سوءاً، أو من أرادني بسوء.
رابعاً: صاغت امرأة العزيز كلامها بطريقة خبيثة فلقد كانت تريد ألا يشعر زوجها بأنها تهوى يوسف عليه السلام لذا فإنها اقترحت العقاب، كما أنها ارادت إلقاء الرعب في قلب يوسف عليه السلام لئلا يتأبى عليها ويمتنع عنها مرة أخرى، كما كانت تخشى أن تكون محبة زوجها ليوسف مانعة له من عقابه.
خامسا: إذا تأملنا العقاب المقترح نجد فيه ما يدل على حبها ليوسف حيث لم تقترح قتله بل اقترحت أولا سجنه في قولها “إلاّ أن يسجن” وهذا يدل على أن سجنه يكون لمدة محددة، فالسجن غير دائم، ولو أرادت دوام سجنه لقالت: إلاّ ان يكون من المسجونين، كما قال فرعون في تهديده لموسى عليه السلام، “لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين” فاستخدم صيغة اسم الفاعل التي تدل على الثبوت. كما قدمت المرأة السجن على العذاب، لأنها لم ترد إيلامه. إذن اقترحت العقاب الذي يضمن لها بقاء يوسف عليه السلام حيا لعله يحقق رغبتها في يوم ما، واقترحت العذاب من أصله من أجل إبعاد الريبة عنها ومن أجل تخويف يوسف.
هذا كلامها فماذا كان جواب يوسف؟ “قال هي راودتني عن نفسي” فقدم المبتدأ (هي) على خبره الفعلي (راودتني...) فأفاد القصر، والقصر هنا للقلب، لأنه أراد أنها هي التي راودته لا هو، ولم يذكر يوسف اسمها فلم يقل: أنت راودتيني عن نفسي، ولم يستخدم اسم الإشارة أيضاً، وهذا غاية الأدب منه عليه السلام، فهو راعى مشاعر زوجها الذي أحسن إليه واستحيا منه وأخبر بضمير الغائب وهي حاضرة وكأنه يتحدث عن امرأة أخرى لدفع الضرر عنها، واحتراماً لصاحب البيت، وقد أضطر عليه السلام للرد لتنزيه نفسه عن التهمة ولتبرئة ساحته، وقد ألجأته المرأة لهذا حيث لم يبتدر بالكلام ولو سكتت لستر عليها. والله أعلم.
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر