شباب عرب أون لاين

منتدى شباب عرب أون لاين يرحب بكم
نتمنى منكم أن أعجبكم هذا المنتدى أن تدعمونا بالتسجيل بالمنتدى لكى نستمر بالدفاع عن أظهار الحقيقة وأنصار المظلومين بكل مكان

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شباب عرب أون لاين

منتدى شباب عرب أون لاين يرحب بكم
نتمنى منكم أن أعجبكم هذا المنتدى أن تدعمونا بالتسجيل بالمنتدى لكى نستمر بالدفاع عن أظهار الحقيقة وأنصار المظلومين بكل مكان

شباب عرب أون لاين

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شباب عرب أون لاين

شباب عرب أون لاين لخدمتكم وللشعب والوطن ونكشف الفاسدين وننصر المظلومين

Like/Tweet/+1

المواضيع الأخيرة

» علاج لإخراج الديدان من المعدة.
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae

» المهندسين خ
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime7/1/2015, 04:18 من طرف زائر

» المهندسين خ
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime7/1/2015, 04:13 من طرف زائر

» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime6/27/2015, 09:30 من طرف زائر

»  طلب مساعده عاجل
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima

» اغاثه
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime6/17/2015, 10:03 من طرف زائر

» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime6/17/2015, 09:59 من طرف زائر

» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
تاب كتاب السنن الالهيه2  I_icon_minitime6/17/2015, 09:56 من طرف زائر

التبادل الاعلاني

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 602 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 602 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


[ مُعاينة اللائحة بأكملها ]


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 615 بتاريخ 11/22/2024, 08:31

Like/Tweet/+1


    تاب كتاب السنن الالهيه2

    avatar
    شباب عرب أون لاين
    رئيس التحرير
    رئيس التحرير


    الدولة : مصر
    عدد المساهمات : 23173
    تاريخ التسجيل : 27/02/2011
    الموقع : عرب اون لاين

    تاب كتاب السنن الالهيه2  Empty تاب كتاب السنن الالهيه2

    مُساهمة من طرف شباب عرب أون لاين 2/14/2012, 22:46

    تاب كتاب السنن الالهيه2






    196 ـ مفهوم المعصية التي لا يطاع فيها الأمير :
    والمعصية التي لا يطاع فيها الأمير إذا أمر بها هي التي عليها دليل شرعي واضح صريح لا يتحمل التفسير بأكثر من وجه ولا الاجتهاد في مدلوله كدخول النار التي أمر أمير السرية أتباعه بدخولها ، لأن الدخول في النار قتل للنفس ، وقتل النفس لا يجوز قطعاً . أما في الأمور الاجتهادية فطاعته فيها واجبة إذ لا معصية في اختيار الأمير رأياً دون رأي فيما يجوز الاجتهاد فيه .

    197 ـ أخذ الأمير بالشورى من موانع الخلاف :
    ومن موانع الخلاف في الجماعة أخذ الأمير بالشورى ، وهذا واجب عليه لأن الشورى من مبادىء الإسلام وصفات المؤمنين وخاطب به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : (وأمرهم شورى بينهم) وقال تعالى : (وشاورهم في الأمر) والمخاطب بهذا الأمر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي ليعلم المسلمون أنهم ملزمون بالشورى وأن على حكام المسلمين وولاة الأمور أن يفعلوا ذلك وإن تركوا الشورى استحقوا العزل ، قال الإمام القرطبي : (قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب)1 فيجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورة مجلس الشورى فيها ، فيشاوره في أمور الدعوة والجماعة قبل أن يتخذ الرأي الذي يأمر به الجماعة .

    198 ـ هل الشورى ملزمة للأمير أو معلمة؟
    وإذا كان الواجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورته لمجلس الشورى فيها ، فهل يجب عليه الأخذ برأي المجلس المتفق عليه من قبل أعضائه أو برأي أكثرية أعضائه ، فيقال للشورى في هذه الحالة أنها ((ملزمة)) أو لا يجب عليه ذلك فله أن يأخذ برأي المجلس وله أن يرفض ولو كان باتفاقهم ويأخذ برأي نفسه فيقال للشورى في هذه الحالة إنها ((معلمة)) فقط وليست ((ملزمة))؟
    والجواب يتوقف على نظام الجماعة ، فما يقرره نظامها من كون الشورى في الجماعة ملزمة لأميرها أو معلمة فقط يكون هو الواجب التنفيذ في حق الأمير وفي حق الجماعة كلها . وليس من بحثنا هنا بيان أي الاعتبارين أرجح : اعتبار الشورى ملزمة أو اعتبارها معلمة فقط . وكل كا نقوله هنا أن المسألة اجتهادية ويتوقف الترجيح على طبيعة ظروف الجماعة وأحوالها من حيث ومن حيث المكان والزمان وما يحيط بها من أوضاع وظروف معينة ومن حيث طبيعة أعضائها من جهة قلتهم وكثرتهم ودينهم وورعهم وعلمهم ومن حيث طبيعة المختارين للإمارة من حيث مدى تقواهم وعلمهم ودرايتهم إلى غير ذلك من الأمور التي ليس هنا محل بسطها والكلام فيها .

    199 ـ نتيجةالأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف :
    والأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف والتي ذكرنا منها اختيار الأمير من قبل الجماعة وأخذه بالشورى في إدارته أعمال الجماعة على النحو الذي بيناه ، فالأخذ بهذه الوقاية سيجعل الجماعة ـ إن شاء الله تعالى ـ بعيدة عن الاختلاف المذموم الذي يفرقها ويوقع الخصام فيها ، وإن وقع الخلاف أمكن معالجته وحسمه وسدّ المنافذ في وجوه المخالفين سيِّئي النية الذين يتوكؤون عادة لتبرير خلافهم وتمردهم على الاحتجاج بمصلحة الدعوة ، ومصلحة الدعوة لا تكون بالخروج على نظام الجماعة ، وإنما تكون بالتقيد والالتزام بهذا النظام وإعطاء الأمير ما أوجبه الشرع له من حق الطاعة بالعروف بعد قيامه بالمشاورة المطلوبة منه .
    الفصل السابع
    سنّة الله في المتساوين والمختلفين
    [قانون التماثل والأضداد]
    200 ـ المقصود بالمتساوين والمختلفين :
    نريد بالمتساوين في بحثنا هذا : المتشابهين أو المتماثلين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
    ونريد بالمختلفين : الأضداد أي المختلفين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
    وهذا المعنى الذي نقصده في المتساوين والمختلفين ينسحب على الأفراد والأمم والجماعات ، وعلى الأفعال والتصرفات وعلى كل ما يترتب عليه حكم أو نتيجة أو جزاء معين في الدنيا والآخرة .

    201 ـ التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام :
    والسنة العامة في التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام أن المتساوين والمختلفين بالمعنى الذي بيناه يتساوون أو يختلفون في النتائج والاحكام في الدنيا والآخرة لتساويهم أو اختلافهم في المعاني والأوصاف التي نبطت بها هذه النتائج والأحكام أو استوجبتها .

    202 ـ قول ابن تيمية في المتماثلين والمختلفين :
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وهو سبحانه وتعالى كما يفرق بين الأمور المختلفة ، فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة فيحكم في الشيء خلقاً وأمراً بحكم مثله ، فلا يفرق بين المتماثلين ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين ، بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسوِّ بينهما . وقد بيّن سبحانه وتعالى أن (السنّة) لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع . والسنّة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره ، ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار فقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) .
    والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه ، فإذا قال تعالى : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، وقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ليحذر السامع أن يعمل مثل أعمال الكفار وليرغّب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء ، قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فالله تعالى أخبر أن سنته لن تتبدل ولن تتحول . وسنته تعالى عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي أي الذي وقع قبله ، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ، ولهذا قال تعالى : (أكفاركم خير من أولئكم) وقال تعالى : (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) ، أي أشباههم ونظراءهم . وقال تعالى : (وإذا النفوس زوجت) ، أي قرن النظير بنظيره . وقال تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) فجعل تعالى التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة1 .

    203 ـ الأدلةعلى قانون التماثل والأضاد :
    الدليل الأول ـ التأمل في أحوال المكذبين :
    قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) . أي انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين ، فإذا سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبيل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم ، أي هلاككم كما هلكوا . وهذا بيان من الله تعالى لجميع الناس ليهتدوا به وليعرفوا سنته . ومن سنته تعالى أن لسير الناس في الحياة سنناً يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها يؤدي إلى الهلاك والشقاوة وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى ما توصل إليه تلك السنن . والذي ينتفع بهذا البيان هم المتقون الذين يهتدون به ويتعظون بما يقصه الله عليهم من أحوال السابقين وما يبينه لهم ما حلّ فيهم بسبب تكذيبهم رسلهم ورفضهم هدى الله تعالى2 .

    204 ـ الدليل الثاني : الاعتبار بإهلاك الكافر الأقوى :
    قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)3 ، والقرن الأمة من الناس . وقيل أهل قرن ، والقرن على هذا المعنى مدة من الزمان قيل مئة سنة وعليه أكثر أهل الحديث والمعنى : ألم يروا إلى مصارع الأجيال السابقة وقد مكنهم الله تعالى في الأرض وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان والنعم الفيرة ما لم يعط مثله للمخاطبين من كفار قريش ثم لم تكن تلك المواهب والنعم والقوة والسلطان بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بتكذيبهم رسل الله تعالى ، وأنشأنا من بعدهم جيلاً آخر لنختبرهم فعملوا مثل أعمال من سبقهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون ـ أي كفار قريش ـ أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز على الله تعالى منهم4 .

    205 ـ الدليل الثالث : لا يستوي الخبيث والطيب :
    قال تعالى : (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)1 ، في هذه الآية الكريمة حكم عام على نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين : الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال والفاسد والصالح والحلال والحرام ولا يستوي الخبيث والطيب من الناس كالظالم والعادل والمفسد والمصلح والبرّ والفاجر والمؤمن والكافر ، فلكل من الخبيث والطيب مما ذكرناه حكم يليق به ويناسبه ، فالمساواة منتفية بين النوعين : الخبيث والطيب (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها كأكل الربا والرشوة فلا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك ، فالعبرة بصفة الشيء وما هو عليه من خبث أو طيب . فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ولا بكثرة أهل الباطل والفساد الخبيثين ، فإن تقوى الله هي التي تجعلكم في زمرة الطيبين الفائزين في الدنيا والآخرة2 .

    206 ـ المتساوون في موجبات العقاب يعاقبون :
    موجبات العقاب من تكذيب الرسل أو عصيان شرع الله أو ظلم عباد الله أو الكفر بنعم الله وغير ذلك إذا تلبس بها قوم أو فئة أو شخص استوجبوا عقاب الله في الدنيا والآخرة . ومن عقابهم في الدنيا هلاكهم أو إصابتهم بالذل والهوان وضيق العيش وزوال الأمن منهم والاطمئنان وغير ذلك . وبهذا مضت سنة الله في الأولين وتجري في الحاضرين واللاحقين ، والأمثلة على ذلك نذكر بعضها مما قصه الله علينا للعبرة والاتعاظ .

    207 ـ أولاً : من يبدل نعمة الله فإن الله شديد العقاب :
    قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)3 .
    قال الإمام القرطبي : قوله تعالى : (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ) لفظ عام لجميع الناس ، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله4 ، أي فيصيب كل مبدل نعمة الله العقاب الذي يستحقه . ولم يقل فإن الله يعاقبهم وإنما قال : (فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ليشعرنا بأن هذا من سنته العامة التي تجري على المبدلين لنعمة الله في الحاضر والمستقبل كما جرت على المبدلين السابقين في الزمن الماضي5.

    208 ـ المقصود بنعمة الله وتبديلها :
    والمقصود بنعمة الله التي يستوجب تبديلها عقاب الله هي نعمة الإسلام والإيمان وما أنزله الله تعالى من الآيات البيِّنات الدالة على دينه الحق الإسلام .
    وتبديل هذه النعمة يعني عدم التصديق بها أو عدم الاهتداء بها وعدم القيام بما تستوجبه من طاعة الله باتباع شرعه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم . وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة ، وما حلَّ بالمسلمين من شقاء وضيق وعيش تعيس فسببه تبديلهم نعمة الله عليهم بنقيض ما تقتضيه من الشكر لله تعالى والعمل بشريعته6 .

    209 ـ ثانياً : من يخالف بعض شرع الله يعاقبه الله :
    قال تعالى مخاطباً اليهود : (ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)7 .
    والمعنى أن الله تعالى أخذ العهود على اليهود أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرجوهم من ديارهم ولا يظاهرون عليهم في ذلك ، وأن يفادوا أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله تعالى على ذلك توبيخاً يُتلى فقال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي تأخذون الفداء وتتركون البعض الآخر من التوراة وهو النهي عن القتل والإخراج من ديارهم (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين وعصيانه وعدم الإيمان به كله ، والعقاب هو الخزي العاجل الذي يصيبهم في الدنيا والعذاب الآجل في الآخرة . وقد شهدت الوقائع التاريخية بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها واعتدت حدود شريعتها إلا تفرق شملها ونزل بها الذل والهوان وهو بعض الخزي في الدنيا وهذه هي سنّة الله التي يجب أن يحصل بها الاعتبار ولا يغفل عنها المسلمون1 .
    وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر نقض العهود وميثاق الله عليهم قال رحمه الله تعالى : (ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع فتضافر بعضنا على بعض ليت بالمسلمين بل بالكافرين حتى إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)2 ، وما ذكره الإمام القرطبي هو بعض ما فعله المسلمون بعد عصره وفي عصرنا الحاضر فحلَّ بهم ما حذر الله منه اليهود لأن من سنة الله تساوي المتساوين في موجبات العقاب بالعقاب الذي حذر منه .

    210 ـ ثالثاً : عقاب الاحتيال على شرع الله :
    وعقاب الاحتيال على شرع الله لتعطيله وعدم العمل به ، هذا العقاب يصيب كل محتال على شرع الله تعالى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)3 .
    الآية الكريمة تشير إلى اعتداء اليهود بما فعلوه من احتيال على اصطياد الحيتان يوم السبت وكانوا ممنوعين منه فظنوا أنهم باحتيالهم ينجون من العقاب فعاقبهم الله تعالى بعقوبة جعلها الله (نكالاً) أي عبرة لغيرهم لأن النكال هو ما يُفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر به غيره . (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) ، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من الناس من العقاب فيمقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم4 .
    وفي تفسير القرطبي : (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) الوعظ يعني التخويف .
    قال ابن عطية : اللفظ عام ، يعم كل متقٍ من كل أمة . وقال الزجاج : (وموعظة للمتقين) لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا ما نهاهم الله عنه فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت لما انتهكوا ما نهاهم الله عنه5 .
    يتبع


    211 ـ رابعاً : معاداة المؤمنين مجلبة للخذلان والدمار :
    قال تعالى : (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ)6 . والمعنى أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخلوا في الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم ، وإن عادوا إلى معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداة المؤمنين على معنى إن داوموا عليها فقد مضت سنة الله أي عادة الله سبحانه وتعالى الجارية ف الذين تحزبوا على الأنبياء وأتباعهم المؤمنين أن تجري هذه السنة على هؤلاء المعادين للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين بأن ينصر الله المؤمنين عليهم ويخذلهم ويدمرهم7 .

    212 ـ خامساً : عاقبة الظلم تصيب كل ظالم :
    قال تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌوَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)8 .
    والمعنى أن تلك القرى ، بقي من بعضها شيء ، وبعضها هلك وما بقي منه أثر البتة ثم قال تعالى : وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية . (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي إن عذاب الله ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك . وقوله تعالى : (وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي أهل تلك القرى .
    وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية غير مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) فينبغي أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي مما يصدق عليه وصف ((الظلم)) فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد1 .

    213 ـ سادساً : من يُسخط الله يصبه عقابه :
    قال تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)2 ، قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي أسخطونا . وقوله تعالى : (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون فيهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم3 .

    214 ـ سابعاً : ينزل العقاب على مستحقيه مهما كانت قوتهم :
    أ ـ قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)4 . فالعقاب ينزل على المتساوين في استحقاقه وإن اختلفت مراكزهم في القوة والسلطان لأن القوي أمام الله ضعيف مهما كانت قوته فينزل عليه العذاب الذي يستحقه . فإذا رأى الظالم المتمرد على الله أن الله أهلك من هو أقوى منه وأكثر أتباعاً وأوسع سلطاناً كان ذلك أدعى له إلى العبرة والاتعاظ . فقوم (تُبّع) كانوا كافرين ولهم قوة ومنعة ومع هذا أهلكهم الله تعالى لكونهم عتاة مجرمين متمردين على شرع الله ، فليحذر كفار قريش وغيرهم من الكفرة الإهلاك بسبب كفرهم كما أهلك من قبلهم
    ـ أي قوم تبع ـ مع أنهم كانوا أكثر من قريش قوة ومنعة وسلطاناً5 .
    ب ـ وقال تعالى : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)6 ، أي فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد فجعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم أي ما أصاب من سبقهم من المكذبين7 .
    ج ـ وقال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ)8 ، وقال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن
    مُّدَّكِرٍ)9 ، أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ، لماذا أهلكوا وكانوا أكثر منكم قوة فكيف تضمنون أنتم أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم . ولقد أهلكنا أمثالكم في الكفر من الأمم السابقة فهل من معتبر
    بذلك؟10 .

    215 ـ عاقبة الكفار واحدة :
    قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)11 . دمّر الله عليهم أي أهلكهم ، ثم تواعد وهدد وحذر مشركي مكة فقال تعالى : (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي لهم أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا12 .

    216 ـ جزاء المجرمين والجاحدين كجزاء أمثالهم السابقين :
    أ ـ قال تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)13 أي ألم نهلك الأولين من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوا به من ربهم ثم نتبعهم الآخرين ، أي ثم نفعل بأمثالهم من المجرمين اللاحقين مثل ما فعلناه بالمجرمين الأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم (كذلك) أي مثل ذلك الفعل الشنيع وهو الإهلاك نفعل بكل من أجرم14 .
    ب ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون)1 .
    والمعنى : لقد أعطينا الأمم السابقة من الأموال والأولاد والقوة ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه ، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فلم تغنِ عنهم من شيء لأنهم جحدوا بآيات الله فأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، فاحذروا أيها المخاطبون ـ يا كفار قريش ـ أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة2 . وهذا تحذير لكل جاحد لآيات الله تعالى .
    ج ـ وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ)3 . والمعنى : لقد أوقعنا (المثلات) أي العقوبات بأمثالهم من المكذبين من الأمم الخالية أي السالفة ، وجعلناهم وما نزل بهم من العقوبات عبرة وعظة لمن اتعظ بهم ، فما لهم لم يعتبروا بذلك؟4 .

    217 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر :
    أ ـ قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)5 أي أنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ، فكيف تظنون ذلك6 . وفي تفسير القرطبي : قال ابن عباس ، قال كفار مكة : إنا نُعطى في الآخرة خيراً مما يُعطى المسلمون ، فنزلت الآية ثم وبَّخهم فقال تعالى : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم7 .
    ب ـ وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)8 . والمعنى أن الله تعالى قد نفى المساواة بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار فلا تساوي بينهم في الىخرة ولا مساواة أيضاً بينهم في الدنيا9 .
    ج ـ وقال تعالى : (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)10 . قال ابن كثير : (أي لا يستوي المؤمنون والكافرون ، وساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار ، ساء ما يحكمون)11 . أي ساء حكمهم هذا وهو حكمهم بالتساوي فيما بين المؤمنين والكافرين12 . ومن مظاهر عدم التساوي بينهم في الدنيا ، أن الله تعالى هو ولي المؤمن في الدنيا ، وأنصاره هم المؤمنين ، وعند الموت تبشره الملائكة بحسن العاقبة وبرحمة الله ورضوانه . أما الكافر فبالضد من ذلك يعيش كافراً ويكون الشيطان وليه ، وعند الموت يموت على اليأس من رحمة الله ، وعلى الكفر به13 .

    218 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر وإن عمل خيراً :
    الكافر لا يساوي المؤمن وإن عمل الكافر خيراً أي أعمالاً حسنة بذاتها أو نافعة للناس ، لأن هذه الأعمال لا تقوى على محو جريمة كفره وتمرده على الله فلا يمكن أن يساوي المؤمن الذي عنده الإيمان بالله وإن لم يتيسر أن يعمل خيراً كثيراً . فيبقى المؤمن ومعه حسنة الإيمان أرجح دائماً من الكافر وإن عمل شيئاً حسناً ما دام بقي كافراً ، فلا مساواة أبداً وفي جميع الأحوال بين المؤمن والكافر قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)14 . قال ابن كثير: إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمّاره ، فميز الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم على قيام المشركين بعمارة البيت وقيامهم بالسقاية ولم يكن ينفعهم ذلك عند الله تعالى مع شركهم به وإن كانوا يعمرون بيته قال تعالى : (لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسمّاهم الله ظالمين بشركهم فلم تغنِ عنهم عمارة البيت شيئاً1 .

    219 ـ التفاضل بين أعمال البرّ :
    أعمال البرّ في الإسلام غير متساوية في المنزلة ولا في الثواب عند الله تعالى فبعضها أفضل من بعض ، وينبغي لذلك أن يكون الاهتمام بالأهم والأرجح والأفضل والأحب لله تعالى والاعلى منزلة عنده . وعلى هذا فعند التزاحم وتعذر عمل الاثنين أن يقدم الأفضل على المفضول والراجح على المرجوح والأهم على المهم والأحب على المحبوب . وهذا في أعمال البر غير الواجبة ، أما في عمل الواجب في حق المسلم والقادر على فعله فهذا يلزم فعله ولا يزاحمه عمل برّ مندوب ، لأن ما هو واجب مقدم على ما ليس بواجب دائماً .
    وقد دلّ على ما قلته أي على التفاضل في أعمال البرّ الآية التي ذكرناها وهي (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ..) الخ فقد جاء في تفسيرها وجه آخر غير الذي ذكرناه ، فقد قال الرازي في تفسيرها : يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين كما يحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين . أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين كما يحتمل انها جرت بين المسلمين والكافرين . قالوا إنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين : (أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ) ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله تعالى وذلك لا يليق إلا بالمؤمنين2 .

    220 ـ من أدلة التفاضل بين الأعمال :
    ومما يدل أيضاً على التفاضل بين الأعمال حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال : إيمان بالله ورسوله . قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل ثم ماذا؟ قال الحج المبرور3 . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة : أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان4 .

    221 ـ التفاضل بين المؤمنين بتفاضل أعمالهم :
    المؤمنين غير متساوين في الدرجة عند الله تعالى لتفاضلهم في أعمال البر التي يعملونها قال تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)5 . والمعنى لا يستوي من أنفق قبل فتح مكة وقاتل ومن أنفق بعد هذا الفتح وقاتل ، فأولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح . وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات6 .
    وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . قالوا ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره7 .
    يتبع
    avatar
    شباب عرب أون لاين
    رئيس التحرير
    رئيس التحرير


    الدولة : مصر
    عدد المساهمات : 23173
    تاريخ التسجيل : 27/02/2011
    الموقع : عرب اون لاين

    تاب كتاب السنن الالهيه2  Empty رد: تاب كتاب السنن الالهيه2

    مُساهمة من طرف شباب عرب أون لاين 2/14/2012, 22:51

    222 ـ أصناف المؤمنين بسبب تفاضلهم :
    ولتفاضل المؤمنين بسبب تفاضلهم في أعمال البرّ صاروا صنفين : أصحاب اليمين والمقربين . والمقربون أعلى درجة من أصحاب اليمين . قال تعالى : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)8 . ففي يوم القيامة ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف : صنفان من المؤمنين وهم أصحاب الميمنة ـ أصحاب اليمين ـ وصنف المقربين وهم أخص وأحظى وأقرب وأعلى درجة من أصحاب اليمين، لأن المقربين فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء فهم سادة أصحاب اليمين وأقل عدداً منهم1 .

    223 ـ الاستخلاف في الأرض لمستحقيه :
    قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)2 . والمعنى أن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وقد فعله الله تعالى3 .
    والمقصود بتمكين الدين لهم ، أي دين الإسلام ، هو أن يؤيدهم بالنصرة والإعزاز ويجعل دينهم الإسلام ثابتاً بأن يعلي الله شأنه ويقوم المؤمنين بتطبيق أحكامه وجعلها هي المهيمنة على جميع شؤون الناس4 . وقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي يبدلهم من بعد خوفهم بمقتضى الطبيعة البشرية من أعدائهم أمناً وطمأنينة ، وقد وقع ذلك كلّه في عهد الصحابة الكرام في زمن الخلفاء الراشدين ، ولا ينافيه ما وقع في عهد عثمان وعلي من الاضطراب لأن المراد من الأمن من أعداء الدين وهم الكفار5 .

    224 ـ طبيعة استخلاف المؤمنين في الأرض :
    والاستخلاف الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو الذي يكون فيه إصلاح البلاد والعباد وحفظ الحقوق وهداية الناس . أما الغلبة والاستيلاء والحكم وأخذ السلطة من الكفرة الفجرة ، فكل ذلك وسيلة لما ذكرنا من إصلاح وهداية وحفظ الحقوق . ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب كما يتم بتمكينه في تصريف شؤون الحياة وأمور الناس وتدبيرها وفقاً لأحكام الإسلام بجعله هو المهيمن على شؤون الحياة وأمور الناس . ومن المعلوم أن الإسلام يأمر بالإصلاح وبالعدل وبحفظ الحقوق لاصحابها وبالحرص على هداية الناس ويأمر بعمارة الأرض والانتفاع بكل ما أودعه الله فيها من ثروة مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله تعالى6 .

    225 ـ شروط الاستخلاف :
    والاستخلاف الذي وعدنا الله به مشروط بالإيمان والعمل الصالح ، قال الإمام الرازي : (فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض)7 .

    226 ـ الاستخلاف لكل من تحقق فيهم شرطه :
    والاستخلاف في الأرض غير مقصور على عهد الصحابة أو الخلفاء الراشدين ، وإنما هو وعد ثابت من الله تعالى وسنّة الله مطردة في التماثل والأضداد ، وأن المتساوين في المعاني التي نبطت بها الأحكام يتساوون في هذه الأحكام ، وعليه فإن سنة الله في الاستخلاف أنه يكون لمن تحقق فيهم شرط الاستخلاف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، فهو حكم عام وسنة عامة مطردة ، قال الإمام القرطبي منتصراً للقول بعموم آية الاستخلاف وعدم قصرها على عهد الخلفاء الراشدين ، قال رحمه الله : (... فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة بالخلفاء الراشدين إذ التخصيص لا يكون إلا بخير ممن يجب له التسليم ، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم)8 .




    227 ـ ينقص من الاستخلاف بقدر ما ينقص من شرطه :
    قلنا إن من شرط الاستخلاف تحقق الإيمان والعمل الصالح فيمن يريدونه ، والإيمان له معانٍ وآثار بينها الشرع في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من ذلك أن يكون المسم محكوماً بأحكام الإسلام في جميع شؤونه وتصرفاته وفيما يأخذه ويتركه وفي أقواله وأحواله وأعماله القلبية ، وأن يعمل الصالحات التي أمر بها الشرع .
    وقد تنقص بعض هذه المعاني في المسلمين فينقص استحقاقهم في الاستخلاف الذي وعدهم الله به ، فيكون لهم بعض معاني الاستخلاف لا كلها . وعلى هذا لا تتحقق لهم كل معاني الاستخلاف من الغلبة والانتصار على الاعداء ونزع السلطة من أيديهم وإقامة شؤون الدولة والمجتمع حسب أحكام الإسلام والتمتع بكامل الأمن والاطمئنان .
    وقد أشار إلى هذا الإمام ابن كثير وهو يتكلم عن آية الاستخلاف فقال رحمه الله تعالى : (فالصحابة لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم باموامر الله عز وجل وأطوعهم لله تعالى كان نصرهم بحسبهم ، فأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب وأيدهم الله تأييداً عظيماً وحكموا في سائر البلاد . ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأمور نقص ظهورهم بحسبهم1 ، أي بحسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح وقيامهم بأوامر الله تعالى .

    228 ـ التساوي في استحقاق النصر للتساوي في موجباته :
    نصر الله يستحقه المؤمنون الذين يتبعون رسوله ويطيعونشرعه وينصرون دينه . وهؤلاء المستحقون لنصر الله تعالى نظراً لقيام موجبات النصر فيهم متساوون في استحقاق هذا النصر ولهذا يظفرون به في كل مكان وزمان حسب وعد الله تعالى وسنته في النصر . وإذا تخلّف النصر عنهم فكذلك لتخلف بعض معاني موجباته أو لأنّ النصر الذي يريده الله غير النصر الذي يريده المؤمنون ، لأن المنظور إليه في (مفهوم النصر) هو ما يعده الله نصراً وإن لم يعده الناس نصراً . كما إن النصر ينظر إليه في عاقبة الأمر وليس قبل ذلك ، فكما أن النصر يتحقق ويتبين ويعرف عند انتهاء الحرب والقتال تماماً وليس عند انتهاء معركة واحدة من معارك الحرب ، فكذلك المؤمنون الذين قامت فيهم موجبات النصر لا بد أن ينتصروا ما دامت موجبات النصر واستحقاقه قائمة فيهم . ولكن لا يجوز لهم أن يعينوا ميعاداً محدداً لنصرهم ولا صورة معينة أو شكلاً معيناً لنصرهم ، وحسبهم أن يثقوا كل الثقة بأن سنّة الله في المتساوين في موجبات نصره أنّهم يتساوون في تحقق هذا النصر لهم ، وعلى ما قلناه دلّ القرآن في آياته الكثيرة ومنها قوله تعالى : (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)2 . قال الرازي رحمه الله : (وعدنا بالنصر لمن هذه حاله)3 وقال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)4 .
    قال الآلوسي : المراد بالجند أتباع الرسل ، وإضافتهم إليه تشريفاً لهم وتنويهاً بهم ، واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة في قوله تعالى : (جُندَنَا) فلا يُغلب اتباع الرسل في حرب إلا لإخلالهم بما تشعر به هذه الإضافة كميلٍ ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل على الله تعالى ونحو ذلك5 .

    229 ـ المشاركة في الثواب للمشاركة في موجباته :
    قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية : فجعل الله تعالى التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة6. لأن المهاجرين والانصار إنما ظفروا برضوان الله وجناته لإيمانهم بربهم وطاعتهم له وجهادهم في سبيله ، فالذين يتبعونهم بإحسان هم الذين يفعلون مثل فعلهم ، ويؤمنون مثل إيمانهم فيشاركونهم فيما ذكر من رضوان الله وجناته لمشاركتهم لهم في موجبات رضوانه وجناته .
    يتبع





    الفصل الثامن
    سنّة الله في الترف والمترفين
    [قانون الترف]
    230 ـ معنى الترف والمُتْرف :
    جاء في لسان العرب1 : الترف : التنعم . والترفه النعمة . وأترفته النعمة أي أطغته . والمُترَف : هو الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش . والمترف : المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها . ورجل مُترف : مُوسَّع عليه . وفي مفردات الراغب2 الترف : التوسع في النعمة .

    231 ـ ثلاث صفات للترف والمترف :
    ومن صفات الترف والمُترف في اللغة يتبين أن لهما ثلاث صفات هي :
    أولاً : الترف : بطر النعمة والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش .
    ثانياً : الترف الطغيان بسبب النعمة . والمترف هو الذي أطغته النعمة .
    ثالثاً : الترف : التنعم والتوسع في ملاذ الدنيا . والمترف هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها .


    232 ـ من عادة المترفين مسارعتهم في تكذيب الحق ورده :
    ومن عادة المترفين لما يفعله فيهم الترف من بطر النعمة وانغماس في الملذات والشهوات انهم يسارعون قبل غيرهم في تكذيب رسل الله ورد الحق الذي جاؤوا به استدلالاً باطلاً بما هم عليه من كثرة المال والاولاد وسعة الجاه والسلطان وكثرة الأتباع وعلو منزلتهم عند الناس قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)3 . فهذه الآيات الكريمة تبين عادة مطردة للمترفين في موقفهم من رسل الله وهي تكذيبهم لهم ورد ما جاؤوا به من ربهم تعالى ، فلم يبعث الله رسولاً في قرية إلا كذبه مترفوها وهم أولو الحشمة والنعمة والثروة والرياسة4 .
    وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السلام لما شغلوا به أنفسهم من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات ومستهينون بمن لم يظفر منها ما ظفروا هم به5 . أو إنما نسب القول بتكذيب الرسل إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا : (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) ، لأن الأغنياء المترفين هم الأصل في ذلك القول ، ألا ترى أن الله تعالى قال عن الذين استضعفوا إنهم قالوا للمستكبرين : (لولا انتم لكنا مؤمنين)6 .

    233 ـ حجتهم في التكذيب :
    أما حجتهم في التكذيب ـ تكذيب رسل الله ـ فهو ما حكاه الله عنهم بقوله تعالى : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي نحن أكثر منكم أموالاً وأولاداً أو إن أموالنا وأولادنا كثيرة جداً وما نحن بمعذبين بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك والأمراء والحكام وقهر الأعداء وعدم نفوذ كلمتنا في الناس ونحو ذلك من المكدرات . وحاصل قول أولئك المترفين وحجتهم : ادّعاؤهم بأنهم في نعمة لا يشوبها نقمة ، وهذا ـ في زعمهم ـ دليل كرامتهم على الله عز وجل ورضاه عنهم ، وانه لو كان ساخطاً عليهم لشركهم لما أنعم عليهم بهذه النعم . وقد ردّ الله عليهم هذه الحجة بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) أي يبسط الرزق لمن يشاء الله بسط الرزق له ، ويضيقه على من يشاء ، فربما يوسع الله سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معاً وقد يضيق عليهما معاً ، وقد يوسع على شخص مطيع أو عاصٍ تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلاً من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته تعالى وحكمته ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة ما يفعله الله من البسط والتضييق في الرزق على عباده1 .

    234 ـ منهج المترفين في الحياة :
    المترفون لا يهتمون إلا بملاذ الدنيا وشهواتها وجمع المال لذلك ، ولا يهمهم ما يكون في الناس من منكرات فهي لا تقلقهم ولا ينهون عنها لأن انشغالهم واهتمامهم بما يجلب لهم الملذات فقط ولو كان ذلك على حساب الآخرة ونعيمها قال تعالى : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ)2 . وقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُوا) أراد بالذين ظلموا : تاركي النهي عن المنكرات ، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما اهتموا بالتنعم والترف والانغماس في الشهوات والتطلع إلى الرياسة والسعي لها وجمع الثروة وطلب العيش الهنيء ، ورفضوا ما وراء ذلك مما ينفعهم في الىخرة ونبذوه وراء ظهورهم3 .

    235 ـ موقف المترفين من الجماعة المسلمة وموقفها منهم :
    وإذا كان من عادة المترفين رد الحق وتكذيب الرسل ومنهجهم في الحياة الانغماس في الشهوات والاهتمام بالترف والعيش الرغيد ولا تقلقهم منكرات المجتمع ، فمن البديهي أن يكون موقفهم من الجماعة المسلمة الصدود عنها ورد ما تدعو إليه وتنفير الناس عنها ، لأن دعوتها ، وهي الدعوة إلى الإسلام تظهر زيفهم وضلالهم . فعلى الجماعة المسلمة ان تصبر على تكذيبهم ومعاداتهم وما يكيدونه لها ، وأن تدخل موقفهم هذا في حسابها ، ولا تعجب منه لأن الترف كما يقول سيد قطب رحمه الله تعالى : (يغلظ القلوب ويفقدها الحساسية ويفسد الفطرة ويغشيها فلا ترى دلائل الهداية فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل ولا تتفتح للنور ..)4 .
    وربما احتج المترفون في صدودهم عن الجماعة وصدهم للناس عنها وردهم لدعوتها بما احتج به أسلافهم من كثرة المال وما يولده من كثرة الأتباع وسعة الجاه والمكانة في المجتمع ، فعلى الجماعة المسلمة أن ترد عليهم بما ذكرناه من رد القرىن عليهم وان تصبر عليهم فإن ما تلقاه منهم هو بعض ما جرت به سنة الله في ابتلاء الدعاة غلى الله تعالى .

    236 ـ جزاء المترفين :
    وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة فكذبوا رسل الله وردوا دعوة الله أن يهلكهم ويذيقهم العذاب في الدنيا كما يذيقهم العذاب في الآخرة ، قال تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)5 .
    وجاء في تفسير هذه الآيات : إن أولئك القوم الظلمة المترفين الذين أبطرتهم النعمة وأطغتهم فردوا الحق الذي جاءهم من ربهم فظلموا أنفسهم بذلك وظلموا غيرهم فاستحقوا العذاب ، قيل لهم على وجه التهكم بهم لما رأوا مقدمات العذاب : (لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة)6 . وقال الإمام القرطبي : (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ) أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم7 . وفي تفسير الرازي : ارجعوا إلى ما أترفتم فيه من العيش والرفاهية والحال الناعمة8 .

    237 ـ هلاك الأمة بفسق مترفيها :
    قال تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)9 . وجاء في تفسيرها : وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها . وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال ، وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد1 .
    يتبع
    avatar
    شباب عرب أون لاين
    رئيس التحرير
    رئيس التحرير


    الدولة : مصر
    عدد المساهمات : 23173
    تاريخ التسجيل : 27/02/2011
    الموقع : عرب اون لاين

    تاب كتاب السنن الالهيه2  Empty رد: تاب كتاب السنن الالهيه2

    مُساهمة من طرف شباب عرب أون لاين 2/14/2012, 22:56

    الفصل التاسع
    سنة الله في الطغيان والطغاة
    [قانون الطغيان]
    238 ـ معنى الطغيان في اللغة :
    جاء في لسان العرب2 : طغى يطغى طغياناً ويطغو طغياناً : جاوز القدر ، وارتفع وغلا في الكفر . وأطغاه المال : جعله طاغياً . وكل شيء جاوز القدر فقد طغى . وطغى الماء والبحر : ارتفع وعلا كل شيء . وجاء في مفردات الراغب3 : أطغاه كذا : حمله على الطغيان ، وذلك تجاوز الحددّ في العصيان . وقوله تعالى : (إنا لما طغى الماء) استعير الطغيان فيه لتجاوز الماء الحدَّ .
    وجاء في المعجم الوسيط4 : طغى طغياً وطغياناً : جاوز الحدّ المقبول . وطغى الماء : فاض وتجاوز الحدّ في الزيادة . وطغى فلان : غلا في العصيان . وطغى فلان : تجبر وأسرف في الظلم .

    239 ـ معنى الطغيان في الشرع :
    ومعنى الطغيان في الشرع يقوم على أساس معناه في اللغة ، فيراد به تجاوز الإنسان حده وقدره . وحدّ الإنسان هو ما حده الله له من حدود لا يجوز أن يتجاوزها .
    وقدْر الإنسان هو قدْرهُ باعتباره عبداً لله تعالى فتلزمه طاعة سيده ومولاه ، وبقاؤه في نطاق العبودية له ، فإن تجاوز ما حدّ الله تعالى للإنسان من حدود لا يتجاوزها او تجاوز قدره وقع في المعصية والتمرد على الله . وعلى ما قلناه من معنى الطغيان في الرع دلت آيات القرآن الكريم ، فمن هذه الآيات ما يأتي .

    240 ـ أمثلة على معنى الطغيان في الشرع :
    أ ـ قال تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)5 قال الزمخشري : (وَلاَ تَطْغَوْاْ) ولا تخرجوا عن حدود الله6 ، وقال الآلوسي : (وَلاَ تَطْغَوْاْ) أي لا تنحرفوا عما حُدَّ لكم بإفراط أو تفريط7 .
    ب ـ وقال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)8 ، وقال القرطبي في معنى : (إِنَّهُ طَغَى) أي إنه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحدّ 9. وقال الآلوسي : (إِنَّهُ طَغَى) أي جاوز الحدّ في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية10 .

    241 ـ ما يحمل الإنسان على الطغيان :
    وأعظم ما يحمل الإنسان على الطغيان ما يصير عنده من مال كثير أو ما يكون له من سلطان نافذ . فالأول هو طغيان المال ، أي الطغيان الذي سببه المال . والثاني هو طغيان السلطان أي الطغيان الذي سببه السلطة التي تكون للإنسان . وكلا النوعين من الطغيان مدمر ومهلك وفقاً لسنة الله تعالى التي لا تتخلف . ونذكر فيما يلي شيئاً عن هذين النوعين من الطغيان .

    242 ـ النوع الأول : طغيان المال :
    المال هو كل ما تميل إليه النفس ويهنأ به العيش ويُتوصَل به إلى ما تهواه النفس من متاع أو ملذات .
    ومن مظاهر طغيان المال أو من نتائجه وثمراته جعل الإنسان من المترفين . وقد ذكرنا بعض أوصافهم وأفعالهم ومنهجهم في الحياة وسنّة الله تعالى فيهم . ومن ثمرات طغيان المال بطر نعمة المال ، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على هذا البطر عند كلامنا عن بطر النعمة بصورة عامة . ونتكلم هنا عن طغيان السلطة وهو النوع الثاني من الطغيان .

    243 ـ النوع الثاني : طغيان السلطة :
    المقصود بطغيان السلطة تجاوز الإنسان حدّه وقدره بسبب ما أوتيه من سلطة الأمر والنهي ونفاذهما على الغير ولو جبراً وقهراً عند الاقتضاء وأكثر ما يكون هذا الطغيان عند الحكام وولاة الأمور لأن سلطتهم وطغيانهم تتعلقان بعموم الناس وهم الذين يبتلون بشرور طغيانهم .

    244 ـ النموذج لطغيان السلطة :
    والنموذج لطغيان السلطة ، طغيان فرعون ، الذي كان من مظاهر تجاوزه حدّه وقدره تكبره على الخالق حتى ادعى لنفسه الربوبية ، وتكبره على خلق الله حتى استعبدهم وظلمهم وغمطهم حقوقهم . وقد كرر الله تعالى قصة فرعون في آيات كثيرة للاعتبار والاتعاظ لحاجة الناس إلى الاعتبار بقصة هذا الطاغية وما حلّ به عقاباً لطغيانه ، لكثرة ما يبتلى البشر بطغيان السلطة . ومن جملة ما ورد في القرآن الكريم فرعون وطغيانه قوله تعالى : (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)1 . قال الإمام الرازي في قوله تعالى : (إِنَّهُ طَغَى) قال بعض المفسرين معناه أنه تكبر على الله وكفر به . وقال آخرون إنه طغى على بني إسرائيل . والأولى عندي الجمع بين الأمرين ، فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم2 .

    245 ـ طغيان السلطة ودعوى الربوبية :
    وقد يصل طغيان السلطة بالإنسان إلى حد ادّعاء الربوبية لنفسه إما بلسان الحال وإما بلسان المقال كما فعل فرعون ، قال تعالى حكاية عما ادّعاه فرعون لنفسه : (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)3 .

    246 ـ ما تعنيه دعوى الربوبية :
    فرعون ادّعى الربوبية لنفسه فبلغ ذروة الطغيان والكفر ، وهذه الدعوى الباطلة لنفسه (أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره)4 ، وقال الرازي فيما تعنيه هذه الدعوى التي أطلقها لنفسه (أي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي ، فليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي)5 .

    247 ـ من طغيان السلطة ظلم الناس :
    قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)6 .
    قال ابن كثير في قوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذى للناس7 . وقال الآلوسي في قوله تعالى : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) وصف بذلك لكثرة جنوده أو لانه كان يدق للممُعذَّب أربعة أوتاد ويشده بها مطروحاً على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو إحراق أو غيره8 .
    وفي تفسير القرطبي : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه، قاله ابن عباس.
    (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) يعني عاداً وثمود وفرعون (طَغَوْا) أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان

    (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) أي الجور والأذى1 .

    248 ـ جزاء طغيان السلطة :
    في الآيات التي ذكرناها من سورة الفجر ، جاء فيها بعد ذكر طغيان فرعون ومن قبله : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، وقد جاء في تفسيرها : (أي أنزل عليهم رجزاً من السماء وأحلّ بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين)2 . وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) تعليل لما قبله وإيذانٌ بان كفار قومه صلى الله عليه وسلم سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب .
    والآية وعيد للعصاة مطلقاً ، وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن3 . وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به4 .

    249 ـ سنّة الله في الطغاة:
    وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب فيهم في الدنيا ، فهي سنّة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة .

    250 ـ من يعتبر بسنة الله في الطغاة؟ :
    وسنة الله في الطغاة وما ينزله من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بهذه السنة العامة من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة ، بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب ، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى)5 .
    قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات : (أي انتقم الله منه ـ أي من فرعون ـ انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا . والمراد بقوله تعالى : (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) أي الدنيا والآخرة : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) أي لمن يتعظ وينزجر6 . وفي تفسير الرازي في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) والمعنى إن فيما اقتصصناه من أمر موسى وفرعون وما أحلّه الله بفرعون من الخزي والعقاب ، وما أعطى موسى من العلو والنصر ، عبرة لمن يخشى وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى والتكذيب لأنبيائه خوفاً من أن ينزل به ما نزل بفرعون ، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم بما ذكرناه ، أي اعلموا أنكم إن شاركتموهم في المعنى الجالب للعقاب شاركتموهم في حلول العقاب بكم7 .
    يتبع




    251 ـ الجماعة المسلمة وطغيان السلطة :
    قد توجد الجماعة المسلمة ، التي تريد الإصلاح ، في مجتمع ابتُلي بحاكم طاغية موغل في الطغيان إلى درجة أنه يرى قتل الصالحين المصلحين صواباً وصلاحاً ولمصلحة الناس كما كان فرعون يفعل ويقول ، فقد حكى الله لنا عنه أنه لما أراد قتل موسى قال للملأ حوله : (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)8 . أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتل موسى ، وما أهديكم بهذا الرأي إلا سبيل الرشاد أي سبيل الصواب والصلاح9 . فكان فرعون يبطش بالناس ويظلمهم ويرى فعله حسناً لتزيين الشيطان له سوء عمله كما قال تعالى عنه : (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ)10 . بل قد يكون للحاكم الطاغية حاشية سوء تزين له عمل الشر وتحرضه على مطاردة المصلحين الدعاة إلى الله تعالى بحجة القضاء على شرورهم وفسادهم كما كانت تفعل حاشية فرعون ، قال تعالى عنهم : (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ..)1 . فماذا يجب على الجماعة المسلمة فعله في مثل هذا المجتمع المبتلى بمثل هذا الحاكم الطاغية؟

    252 ـ واجب الجماعة المسلمة عند طغيان السلطة :
    إذا واجهت الجماعة المسلمة حاكماً طاغية وقد يكون بأوصاف فرعون في البطش والظلم والغرور وحاشية السوء التي تحيط به ، فإن واجب الجماعة المسلمة نصح هذا الحاكم الطاغية لأن الدين النصيحة وتبصير الأمة بواجبها نحوه ، فكيف يكون هذا التبصير وتلك النصيحة .

    253 ـ اولاً : نصح الحاكم :
    تتقدم الجماعة المسلمة إلى الحاكم الطاغية بالنصيحة والموعظة الحسنة فتذكره بحقيقة ذاته وأنه كان نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، ومن كانت هذه بدايته وتلك هي نهايته فلا يليق به الطغيان والاستكبار في الأرض والاعتداء على الناس ، ثم إنه يُذكَّر بأنه عبد الله تعالى ولا يحق للعبد أن يتجبر ويطغى على عبيد سيده ، فهو وهم عبيد له جلّ جلاله ، ولا أن يطغى ويظلمهم فإن الله تعالى أقوى منه وأكبر2 . وتذكره الجماعة بأن الله تعالى يمهل الظالم لحلمه الواسع وعسى أن يثوب ويرجع ولا يهمله فلا يعاقبه على ظلمه .
    فهذا الكلام ونحوه يصلح أن يكون من النصح الذي تتقدم به الجماعة إليه ، وقد يكون سبباً لإيقاظ ما بقي في قلبه من إيمان أو خوف من الله تعالى .. ويكون هذا النصح بكل أسلوب نافع وقول لين فقد قال تعالى لنبيه موسى وأخيه هارون عليهم السلام ، وقد أرسلهما إلى فرعون : (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)3 . ويكون النصح له بمواجهته بالتعريض وبالتصريح حسبما يقتضيه المقام وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو يكون تقديم النصيحة له بالكتابة ، أو بإرسال رسول إليه ، أو بتكليف أحد المقربين له لإيصال النصيحة إليه أو بأي أسلوب آخر نافع وجائز شرعاً .

    254 ـ ثانياً : تبصير الأمة بواجبها :
    تبصر الجماعة المسلمة الأمة بواجبها نحو الحاكم الطاغية بأن تعلمها بأن اللهحرّم معاونة الظالم ، بل ونهى عن الركون إليه الذي يشمل أي ميل ومعونة له بالقول أو بالفعل أو بالمدح أو باستحسان ما يفعله من تعد على الناس ، أو بحضور مجلسه أو إعلان البشر والسرور عند ملاقاته لان هذا كلّه يدخل في مفهوم معاونة الظالم أو الركون إليه والله تعالى يقول : (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)4 .

    255 ـ من تبصير الجماعة للأمة :
    ومن تبصير الجماعة المسلمة للأمة بواجبها نحو الحاكم الطاغية أن تبين الجماعة للأمة بأن الحاكم ما كان يستطيع أن يطغى لولا أعوانه ، وأعوانه أفراد من الأمة ، فهم أدواته في الظلم والطغيان ولهذا يعتبرون مجرمين مثله ومشاركين له في جريمة طغيانه ، ولهذا وصف الله فرعون وأعوانه بوصف واحد قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)5 ، ولما أهلك الله تعالى فرعون أهلكهم معه قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)6 . وفي آية أخرى : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)7 .

    256 ـ ومن تبصير الأمة وجوب معاملة أعوان الظالم معاملته :
    ومن تبصير الجماعة المسلمة بأن أعوانه سيطغون كما يطغى سيدهم الحاكم الطاغية لأنهم يعينونه على حكمه الظالم فيعينهم على بغيهم وظلمهم للناس وقد أشار القرآن الكريم إلى طغيان أعوان فرعون فقال تعالى عنهم : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)1 ، وعلى هذا يعامل أعوان الحاكم الظالم معاملته من جهة تحريم الركون إليهم ولزوم وعظهم ونصحهم .

    257 ـ للمسلم شخصيته الإسلامية :
    ومن تبصير الجماعة المسلمة للأمة أن يقال لها : إن للمسلم شخصية واحدة هي الشخصية الإسلامية المحكومة بالإسلام حكماً شاملاً لكل مقومات ومعاني الشخصية ، فلا يصدر من المسلم من قول أو فعل إلا وفق معاني الإسلام وأحكامه ولغرض مرضاة الله وحده قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)2 . أي إن صلاتي وعبادتي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح ، فكل ذلك لله رب العالمين وحده لا شريك له لا يشركه غيره فيها وبذلك من الإخلاص أمرت وأنا أول المسلمين ، لان إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته3 .
    وعلى هذا لا يجوز للمسلم أن تكون له شخصيتان : شخصية إسلامية وهو في المسجد . وشخصية المعين أو الخادم للحاكم الطاغية المنفذ لبغيه وظلمه وطغيانه ، وهذه شخصية مناقضة لمقتضيات الشخصية الإسلامية . فعلى المسلم أن يحافظ على شخصيته الإسلامية واضحة وأن تكون أعماله منسجمة مع هذه الشخصية .
    يتبع


    الفصل العاشر
    سنّة الله في بطر النعمة وتغييرها
    [قانون النعم وتغيرها]
    258 ـ معنى النعمة :
    جاء في لسان العرب4 : النعمة : الخفض ـ خفض العيش ـ والدعة والمال .
    وجمع النعمة : نعم وأنعم . والتنعم : الترفه . والنعمة ما أنعم به عليك . وفلان واسع النعمة أي واسع المال . ونعمة العيش حسنه ونضارته .
    وفي مفردات الراغب5 : النعمة : الحالة الحسنة ولين العيش .

    259 ـ والخلاصة في معنى النعمة :
    أنها تعني ما يترفه به الإنسان ويتمتع به ويطيب به عيشه ويهنأ وما يصلح به حاله وما به يسعد . ويدخل في مفهوم النعمة الأشياء المادية كالمال ولين العيش والسكن الحسن ، كما تشمل النعمة الأشياء المعنوية كالهداية إلى الإسلام وكالعتق بالنسبة للعتيق .

    260 ـ بطر النعمة أو كفرانها :
    ويعني بطر النعمة الطغيان عند النعمة وعدم القيام بشكرها6 . ويطلق أيضاً على بطر النعمة : كفران النعمة ، فقد جاء في مفردات الراغب : وكفر النعمة أو كفرانها يعني سترها بترك أداء شكرها . والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً ، والكفر في الدين أكثر استعمالاً ، والكفور يستعمل فيهما جميعاً7 .

    261 ـ سنة الله في بطر النعمة :
    أولاً : عقوبة البطرين بالجوع والخوف :
    قال تعالى : (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ

    لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)1 . أي جعل الله تعالى القرية التي هذه حالها ـ وهي أنها كانت تعيش بأمن واطمئنان ولا يزعجها قلق ولا خوف ويأتيها رزقها رغداً أي واسعاً من كل مكان ـ جعل الله تعالى هذه القرية مثلاً لأهل مكة ولكل قوم أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الأمن والرزق الوفير الواسع فأبطرتهم هذه النعمة فلم يقدروها حق قدرها ولم يشكروا الله عليها ولم يقوموا بحقها فأنزل الله فيهم نعمته ، فليحذر غيرهم أن يفعلوا فعل اهل هذه القرية التي ضربها الله مثلاً لئلا يصيبهم ما أصابهم2 .

    262 ـ ثانياً : إهلاك البطرين وتخريب ديارهم :
    ومن سنته تعالى في البطرين تخريب ديارهم وإهلاكهم ، ومعنى ذلك أن بطر النعمة قد يستوجب مثل هذا الجزاء كما أنه قد يستوجب العقاب الجوع والخوف الذي ذكرته في الفقرة السابقة ، فهذا الجزاء أو ذاك يمكن أن يصيب البطرين أو يصيبهم كلاهما . قال تعالى في جزاء البطرين بالتخريب والتدمير : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)3 ، أي وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي كانت حالهم كحال أهل مكة في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة ولم يشكروا الله عليها فدمرهم الله تعالى وخرّب ديارهم ، فليعتبر كل قوم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك إذا فعلوا فعلهم في بطر النعمة4 .

    263 ـ ثالثاً : إهلاك زروع البطرين وثمارهم :
    ومن سنة الله في البطرين إهلاك زروعهم وثمارهم ، فليس عقاب البطرين واحداً فقد يكون بالخوف والجوع كما ذكرنا ، وقد يكون بتخريب بيوتهم وإهلاكهم ، وكما ذكرنا أيضاً ، وقد يكون بإهلاك زروعهم وثمارهم ، وقد تجتمع هذه الجزاءات عليهم فيعاقبوا بالخوف والجوع ثم بإهلاك الزروع والثمار ثم بتخريب بيوتهم وتدميرهم . وقد يحل بهم جزاء واحد فيتوبوا ، ولله الحكمة البالغة يفعل ما يشاء . فمن اللجزاء بإهلاك زروع وثمار البطرين ما ذكره الله تعالى بأهل سبأ ، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) . 5
    وهذه الآيات الكريمة نزلت في أهل سبأ وقد كان من أخبارهم التي تشير إليها هذه الآيات أنهم كانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وفي عيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم وقد بعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه تعالى ويشكروه على نعمه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ، ثم أعرضوا عما أُمروا به أي أعرضوا عن توحيد الله وعبادته وحده وشكره على ما أنعم به عليهم وعدلوا إلى عبادة غير الله تعالى فأرسل عليهم السيل العرم وهو المطر الشديد وعن ابن عباس وغيره هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل فيه ، وبني السدّ فيه فأغرق أرضهم وزروعهم زبساتينهم المثمرة وعوضهم الله عنها ببساتين ثمرها مرٌّ وبأثل وهو شجر يشبه الطرفاء وشيء من سدر قليل . ثم بيّن تعالى أن ما حلّ بهم من العقاب إنما هو جزاء كفرانهم النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، وهل يعاقب إلا الكفور بنعم الله تعالى6 . فمن سنة الله تعالى في البطرين الذين لا يؤدون شكر الله على نعمه إنزال العقاب الذي يستحقونه ومنه العقاب المذكور في هذه الآيات التي عاقب بها أهل سبأ .

    264 ـ سنة الله في تغيير النعم :
    أ ـ آية من القرآن في هذه السنة :
    قال تعالى : (.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)7 ، أي إن الله تعالى لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية بأن يسلبها منهم حتى يغيروا ما بأنفسهم أي ما اتصفت به أنفسهم من الأحوال الحميدة ، فإذا حصل هذا التغيير منهم فقدوا ما عندهم من نعمة8 .
    وقال الإمام الرازي في هذه الآية : إن كلام جمع المفسرين يدل على أن المراد : أن الله تعالى لا يغير ما هم فيه من

    النعم بإنزال الانتقام منهم إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد1 .

    265 ـ آية أخرى من القرآن في هذه السنة :
    وقال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)2 أي لم يكن شأنه تعالى ولا مقتضى سننه العامة في خلقه أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من الاحوال التي استحقوا بها تلك النعمة3 . فنعم الله تعالى على الأقوام والامم منوطة ابتداء ودواماً باخلاق وصفات وعقائد وعوائد واعمال تقتضيها ، فما دامت هذه الأشياء لاصقة بأنفسهم متمكنة فيها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها حسب سنة الله تعالى العامة في خلقه ، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم فصار الغني فقيراً والعزيز ذليلاً والقوي ضعيفاً . هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم وهو كذلك في الأفراد4 .

    266 ـ الجماعة المسلمة وسنة الله في تغييرالنعم :
    وسنة الله في تغيير النعم تجري على الجماعة المسلمة ، فما دامت مستمسكة بشرع الله في عملها وبالاعتصام بحبل الله في وحدتها فإن نعم الله عليها بالتأييد والنصر ودفع الأذى عنها باقية فإذا غيرت ذلك فلم تتقيد بشرع الله في عملها وفرطت في وحدتها فإنها تسلب من نعم الله بالتأييد لها بقدر ما ضيعته من موجبات هذه النعم .
    يتبع




    الفصل الحادي عشر
    سنّة الله في الذنوب والسيئات
    [قانون الذنوب والسيئات]
    267 ـ تعريف الذنب والسيئة :
    الذنب يستعمل في كل فعل يستوخم عقباه ، اعتباراً بذنب الشيء . وجمع الذنب ذنوب ، قال تعالى : (فأخذهم الله بذنوبهم)5 ، والسيئة : الفعلة القبيحة ، وهي ضد الحسنة ، قال تعالى : (بلى من كسب سيئة) . والسوء كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية . والسوء الفعل القبيح قال تعالى : (من يعمل سوءاً يجز به) . والحسنة والسيئة ضربان (أحدهما) بحسب اعتبار العقل والشرع من نحو المذكور في قوله تعالى : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) . (والثاني) حسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع وذلك ما يستخفه الطبع وما يستثقله ، ومنه قوله تعالى : ((ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة)6 .

    268 ـ المعصية وعلاقتها بالذنب والسيئة :
    والمعصية تستعمل فيما يستعمل فيه الذنب أو السيئة لأنها تعني الخروج عن الطاعة والأمر7 ، أي الخروج عن طاعة من تجب طاعته والذي تجب طاعته هو الله تعالى بطاعة شرعه الذي نزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لتبليغه للناس .
    فالمعصية والذنب والسيئة يجمعها جامع الخروج عن طاعة الله فيوصف هذا الخروج بالقبح وسوء العاقبة وبالذنب والسيئة والمعصية .

    269 ـ من يعمل سوءأً يُجزَ به :
    عمل السيئات يستوجب ترتب الجزاء عليها بغض النظر عن فاعلها ، فسنة الله تعالى في عمل السيئات وما يترتب عليها سنّة عامة قاطعة تسري على جميع الخلق ولا تتخلف عن فرد أو أمة أو جماعة فلا محاباة لأحد من الخلق في جريان هذه السنة العامة ، فالله تعالى هو رب العالمين ، والكل أمام هذه السنة العامة سواء ، فكل من يعمل سوءاً يلق جزاءه بحسب سنة الله تعالى ، فلا تتوقف هذه السنة الربانية عن بعض وتسري على البعض الآخر ، ومن يعتقد ذلك فهو واهم ومخطىء ، قال تعالى في بيان هذه السنة العامة : (من يعمل سوءاً يُجزَ به)1 . قال الإمام القرطبي في تفسيرها : (وقال الجمهور لفظ الآية عام ، والكافر والمؤمن مجزي بعمله السوء .. ) 2 .

    270 ـ وجزاء سيئة سيئة مثلها :
    إن الجزاء بقدر السيئة قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)3 لأن الزيادة على مقدار السيئة أي على مقدار ما تستحقه من الجزاء ، هذه الزيادة قبيحة لأنها ظلم والظلم لا يجوز حتى مع الظالمين . وأما الزيادة على ما تستحقه الحسنة فهذه الزيادة محمودة لأنها فضل4 .

    271 ـ إقرار المنكر ذنب يستوجب عقاباً عاماً :
    قال تعالى : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)5 . وقوله تعالى : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً) أي ذنباً . وفسّر هذا الذنب بإقرار المنكر في المجتمع ، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظهور البدع والتكاسل في الجهاد6 . والراجح في المقصود ب(الفتنة) في هذه الآية إقرار المنكر في المجتمع وعدم إنكاره ، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب7 .

    272 ـ تعليل هذا العقاب العام :
    وقد يقال إن الأصل المقطوع به في الشريعة الإسلامية هو قصر العقوبة على من قام فيه سببها قال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فكل نفس بما كسبت رهينة ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق كل عقوبة بمن ارتكب موجب هذه العقوبة فما وجه شمول الجميع بالعقاب وعدم قصره على فاعل المنكر؟
    والجواب : أنه كما يجب على مرتكب المنكر الإقلاع عنه ، يجب على الباقين إنكاره ورفعه ، فإذا لم يفعلوا كانوا آثمين جميعاً : هو بفعله المنكر ، وهم بسكوتهم عنه ورضاهم به ، وقد جعل الله بحكمه وحكمته الراضي بالمنكر كفاعله ، فيصيبهم العذاب جميعاً لإثمهم جميعاً8 .

    273 ـ اعتراض ودفعه :
    ولكن قد يقال إن الباقين قد ينكرون المنكر بألسنتهم ويبقى المنكر ولا يستطيعون تغييره بأيديهم ، وقد لا يستطيعون إنكاره حتى بألسنتهم فينكرونه بقلوبهم لأن هذا ما يقدرون عليه ، وفي الحديث النبوي الشريف : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ، فما وجه شمول الجميع بالعقاب في هذه الحالة؟ والجواب أن على العاجزين عن تغيير المنكر الخروج من هذا البلد الذي تعمل فيه المنكرات ولا يستطاع تغييرها ، جاء في تفسير القرطبي : (وإذا لم تغير ـ اي المنكراتـ وجب على المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها ، وبهذا قال السلف رضي الله عنهم . وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : تُهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها) 9 .
    274 ـ سؤال وجوابه :
    ولكن إذا لم يستطع الهجرة من بلد المنكر من لا يستطيع تغييره باليد ولا باللسان وإنما بقلبه فقط ، فهل يصيبه العذاب العام أيضاً وينزل منزلة فاعل المنكر أو الراضي به؟


    والجواب : نعم يشمله العقاب العام ويكون طهرة له ثم يحشر على نيته ، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن زينب بنت جحش قالت : قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : (نعم . إذا كثر الخبث) . قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث : الخبث ، فسرّه الجمهور بالفسوق والفجور . وقيل المراد الزنا خاصة . والظاهر أنه المعاصي مطلقاً ، ومعنى الحديث : إن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام ، وإن كان هناك صالحون1 .
    وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بُعثوا على أعمالهم) ، قال ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث : إذا أنزل الله بقوم عذاباً أي عقوبة لهم على سيء أعمالهم (أصاب العذاب من كان فيهم) والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم (ثم بعثوا على أعمالهم) أي بعث كل واحد منهم على حسب عمله إن كان صالحاً فعقباه صالحة وإلا فسيئة فيكون ذلك طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين2 .

    275 ـ الكفرة لكفرهم يخافون المؤمنين :
    الكفر أو الشرك أعظم المعاصي ومن سنة الله فيه وفي أصحابه إلقاء الرعب في قلوبهم كلما لقوا المؤمنين وقاتلوهم ، قال تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)3 .
    اختلف المفسرون في هذا الوعد هل هو مختص بمعركة أحد أو هو عام في جميع الأوقات؟ قال كثير من المفسرين : إنه مختص بمعركة أحد وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . (والقول الثاني) أن هذا الوعد غير مختص بمعركة أحد ، بل هو عام فإن وعد الله هذا يتحقق كلما لقي المؤمنين الكفار فسيلقي الله الرعب في قلوبهم حتى يغلبهم المؤمنين ويظهر الإسلام على سائر الأديان4 .
    والقول الثاني يبين سنة عامة لله تعالى ، فوعده تعالى قائم بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة كلما التقوا مع أهل الإيمان . ولكن يجب أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين حتى يتحقق لهم هذا الوعد من الله تعالى بإلقاء الرعب في قلوب الكفار عند اللقاء بهم5 . فالذين خوطبوا بهذه الآية ووعدهم الله بهذا الوعد هم المؤمنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذكر الله لنا أوصافهم في القرآن الكريم من صدق الإيمان ومحبة الله ورسوله وإيثار هذه المحبة على ما سواه ، وبذلهم المال والنفس في سبيل الله وهجر الوطن والأهل والمال نصرة لدين الله وانقيادهم الكامل الشامل لشرع الله إلى غير ذلك من الصفات6 ، فسنة الله في إلقاء الرعب في قلوب الكفار من المؤمنين في القتال وفي كل لقاء إنما هو للمؤمنين حقيقة الذين قامت فيهم معاني الإيمان وأوصافه وظهرت آثاره في أقوالهم وأعمالهم .

    276 ـ الذنوب تهلك أصحابها :
    قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)7 .
    وواضح من هذه الآيات أن الهالكين إنما أهلكهم الله بذنوبهم التي اقترفوها . وفي هذا الإخبار تقرير حقيقة ثابتة وسنة مطردة : أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ، وأن هذه سنة ماضية ولو لم يرها أحد في عمره القصير ، ولكنها سنة ثابتة تخضع لها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ، فإنها تهلك إما بقارعة من الله تعالى كما كان يحدث في هلاك الأمم السابقة ، وإما بالانحلال البطيء الطبيعي الذي يسري في كيان الأمة وهي توغل في متاهات الذنوب وتحسب أنها في أمان من الهلاك8 .




    277 ـ الأمة تهلك بذنوبها وإن كانت قوية :
    قال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ)1 أي أولم يسر في الأرض هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد فينظروا كيف كان عاقبة من قبلهم من الأمم المكذبة بالأنبياء ما حلَّ بهم من العذاب مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة وآثاراً في الأرض فقد شيدوا من البنايات والمعالم والديارات مالا يقدر هؤلاء عليه ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم وما كان لهم من الله من واق أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد2 .

    278 ـ الذنوب تضعف مقاومة المؤمن للشيطان :
    قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)3 أي إن الذين تولوا عن القتال في معركة أحد لم يكن ذلك منهم إلا ناشئاً عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل ، فهذه السيئات هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم وفتحت ثغرة فيها تسلل منها الشيطان فقدر على استزلالهم بالتولي عن القتال ، كما قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها4 . فالذنوب بالنسبة لمرتكبها كالأمراض بالنسبة للمصاب ، تضعف مقاومته وتفتح ثغرة في بدنه تتسلل منها الجراثيم والأمراض أو تقوي فيه الموجودة منها في البدن أصلاً .

    279 ـ الذنوب سبب المصائب :
    قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)5 ، أي وما أصابكم أيها الناس أي مصيبة من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات والأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام والقحط والغرق وأشباهها (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) أي ويعفو عن كثير من الذنوب فلا يعاقبكم عليها عاجلاً ، قيل وآجلاً 6.
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب ، قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ) وقال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)7 .

    280 ـ مصائب لا يكون سببها المعاصي :
    والمصائب التي تصيب الإنسان وإن كان الغالب فيها أنها نتيجة المعاصي والذنوب وهذه هي سببها ، إلا أن هناك من تصيبهم المصائب دون معصية منهم ، قال الزمخشري (فأما من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفي والمصلحة) 8 .
    وفي تفسير القرطبي : (وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إلا بها) 9 . ومن هذا النوع من المصائب أي التي يراد منها رفع درجته لا عقوبته ، ما يصاب به الأنبياء10 .
    يتبع
    avatar
    شباب عرب أون لاين
    رئيس التحرير
    رئيس التحرير


    الدولة : مصر
    عدد المساهمات : 23173
    تاريخ التسجيل : 27/02/2011
    الموقع : عرب اون لاين

    تاب كتاب السنن الالهيه2  Empty رد: تاب كتاب السنن الالهيه2

    مُساهمة من طرف شباب عرب أون لاين 2/14/2012, 23:13

    281 ـ الموقف الصحيح من المصائب في حق الفرد والجماعة :
    الموقف الصحيح من المصائب في حق الفرد والجماعة المسلمة يقوم على أربعة أو يستلزمها وهي : (أولاً) العلم بأسبابها . (ثانياً) لوم النفس لا الغير . (ثالثاً) تحصين النفس ضد المصائب (رابعاً) الصبر مع مدافعة المصائب . ونتكلم فيما يلي بإيجاز عن هذه العناصر .

    282 ـ أولاً : العلم بأسباب المصائب :
    على الفرد المسلم والجماعة المسلمة العلم على وجه اليقين بمضمون الآية الكريمة : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ . .) . ويجب عليهما استحضار هذا العلم وهذه الآية الكريمة ، بل والنطق بها من قبل الفرد والجماعة لئلا يقع في نفوسهم شيء من الاعتراض الخفي على ما وقع عليهم من مصيبة بحجة عدم صدور شيء منهم يستوجب هذه المصيبة . لأن هذا الاعتراض الخفي بلسان المقال أو بلسان الحال ، مع ما فيه من تزكية النفس ، فيه ما فيه من معاني الكفر والردة لتضمنه اتهام الله تعالى بالظلم لإصابتهم ـ بزعمهم ـ بالمصيبة بلا صدور شيء منهم يستوجبها . إن الفرد المسلم والجماعة المسلمة بحاجة شديدة ومستمرة للثبات على معاني الإيمان وعدم الوقوع فيما يخالفها من معاني الكفر والردة ، وإلا فقدوا تأييد الله واستحقوا عقابه .

    283 ـ ثانياً : لوم النفس لا الغير :
    إن مما ابتُلي به المسلمون أفراداً وجماعات أنهم يلومون غيرهم لا أنفسهم إذا وقعت عليهم نكبة أو مصيبة ، فتراهم يفتشون على من يحملونه مسؤولية ما وقع عليهم من نكبات ومصائب وينسون أنفسهم ، فلا يحملونها شيئاً من مسؤولية ما وقع . فإذا فقدوا بلداً من بلادهم كفلسطين مثلاً قالوا : المستعمر هو المسؤول ، وراحوا يلومونه ويشتمونه ويحققون في أنفسهم ما جاء في المثل العربي القديم : أوسعتهم شتماً وراحوا بالإبل ... وإذا تسلط عليهم حكام طغاة ظلمة قالوا هذا من تدبير الكفار فهم الذين جاؤوا بهم إلى الحكم والسلطة .. وإذا وقع نزاع بين فئتين أو جماعتين أو بلدين مسلمين قالوا : هذا من فعل اليهود وعملائهم .. وهكذا فقد تأصلت هذه العادة عند المسلمين : وهي لوم الغير لا النفس عند وقوع النكبات والمصائب . وهذا موقف مرفوض عقلاً وشرعاً .
    أما عقلاً فلأن من يلقون عليهم اللوم من المستعمرين والكفار واليهود ، يعرف المسلمون عداوتهم لهم ، والعدو لا يريد خيراً بعدوه ، وهل في قولهم (هذا من فعل المستعمر) شيء جديد أو اكتشاف جديد؟ إن عمل الشيطان وأعوانه ينصب على الإخلال والإفساد وإيذاء المؤمنين ولهذا كان شيطاناً وكانوا له أعواناً فما وجه لومهم؟
    إن المستعمر ما كان يستطيع أن يصل إلى بغيته لولا غفلة المسلمين وإيجادهم الثغرات التي تسلل منها المستعمر وفعل فيهم ما فعل . وإن طغيان الحكام الذين جاء بهم الاستعمار ـ حسب زعمهم ـ ما كان ليحصل لولا عون الناس لهم وركونهم إلى ظلمهم ، فلماذا يلومون الاستعمار الذي جاء بهم ـ كما يقولون ـ ولا يلومون أنفسهم في خدمتهم وإعانتهم وتمكينهم بذلك على البقاء والطغيان؟
    وأما أن موقفهم هذا ـ وهو لوم الغير لا أنفسهم ـ مرفوض شرعاً ، فلأن الله تعالى بيّن لنا بأن ما أصابنا كان بسبب منا قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وهذا يقتضي أن نلوم أنفسنا لا غيرنا ، فنحن إذن الملومون . وأيضاً فقد بيّن الله تعالى الجهة التي تلام عند وقوع النكبة أو المصيبة فقال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) فالله تعالى حدّد الجهة التي تلام عند حلول النكبة أو المصيبة وهي أنفسنا فلا يجوز شرعاً أن نبرىء أنفسنا مما يقع علينا من النكبات والمصائب ونلقي اللوم والمسؤولية على الغير .

    284 ـ فائدة لوم النفس لا الغير :
    ولوم النفس لا الغير عن حلول المصيبة يفيد جداً لأنه يحفز المصاب على السعي الجاد لإزالة ما قام في النفس أو ما صدر عنها من أسباب أدت إلى وقوع هذه النكبات والمصائب ، وإعداد ما يلزم لرفعها ولمنع وقوعها في المستقبل . وهذا شيء مهم جداً وهو ما يخشاه الأعداء لأنهم لا يخشون شتم المسلمين لهم أو صراخهم بأن ما حلّ فيهم هو من تدبير وفعل المستعمرين ، إنما الذي يخشاه المستعمرون الكفرة أعداء الدين أن يفقه المسلمون السبب الحقيقي لما حلّ بهم ، وهو أنفسهم وتقصيرهم فيحملهم هذا الفقه على معالجة السبب الحقيقي معالجة حقيقية حاسمة ترد الكافر المستعمر كيده إلى نحره وتسترجع منه جميع الحقوق التي سلبها من المسلمين سواء كان المسلوب أرضاً أو بلداً أو مالاً أو ثروة أو سيارة أو حكماً .
    هذا هو المنهج السليم لرفع ما حلّ بالمسلمين من نكبات بسبب منهم ، وهو ما يخيف الكفرة المستعمرين .. وعلى الجماعة المسلمة أن تفقه الناس بما ذكرناه ، وأن تعمل هي نفسها به ، فإذا رأت فشلاً في عملها أو وقوفاً في نشاطها أو انفضاض الناس من حولها ، فعليها أن تبدأ بنفسها لتعلم هل أن ما تراه من فشل في عملها أو وقوف في نشاطها أو انفضاض الناس من حولها ، كان ذلك بسبب منها وتقصير في واجبها لتعالجه حالاً أو كان بسبب ظروف لا قبل لها بها ، ولتراكم الفساد والجهالة في الناس مما يدعوها إلى مضاعفة الجهد والعمل فتسعى إلى زيادة عملها وجهدها؟

    285 ـ ثالثاً : تحصين النفس ضد المصائب :
    والعنصر الثالث من عناصر الموقف الصحيح من المصائب في حق الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، هو تحصين النفس ضد المصائب كما يحصن الإنسان نفسه ضد الأمراض ، وذلك بأن يأخذ بسبل الوقاية الصحيحة التي تمنع وقوع هذه المصائب فيلتزم كل منهما بما أوجبه الشرع وعدم عصيانه ، وبهذا الالتزام الصارم الدقيق الدائم تندفع عنهما الكوارث والنكبات والمصائب حسب سنته تعالى . وقد دلّ على ما قلناه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ) ، وقد ذكرنا تفسير هذه الآية من قبل وبينا أن الذنوب تضعف مقاومة المسلم للشيطان فيتسلل إليه ويجره إلى المعصية1 .

    286 ـ رابعاً : التزام بالصبر ومدافعة للمصائب :
    الصبر ضروري للمسلم وللجماعة المسلمة ، ومن الأسباب المهمة التي لا غنى عنها لبلوغ الغاية وتحقيق الغلبة والنصر على العقبات والأعداء . وكذلك هو ـ أي الصبر ـ من الأمور الضرورية للفرد والجماعة عند حلول المصائب بهما حتى يمكن تجاوزها وآثارها . ومما يعين على الصبر تذكر ما ورد في الشرع من أمر بالصبر وثواب عليه وحسن عاقبته في الدنيا والآخرة والبشارة للصابرين الذين يعلمون أنهم عبيد لله فهو سيدهم ومالكهم ، والمالك يتصرف بملكه كما يشاء وأنهم راجعون إليه فيجازيهم على صبرهم أحسن الجزاء قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)2 .

    287 ـ مدافعة المصائب لا تناقض الصبر :
    ومن الوهم الذي قد يقع فيه الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة أن مدافعة المصائب تناقض الصبر ، وهذا وهم وغير صحيح لأن حقيقة الصبر هي : أن تثبت حيث أمرك الشرع بالثبات وأنت تقوم بما أمرك الله بفعله أو أباحه لك . والشرع أمرك بدفع ما يؤذيك ، وبدفع ما يستحق الدفع والإزالة شرعاً وإن كان الجميع بقدر الله تعالى فالمصيبة التي يمكن رفعها ودفعها بإزالة أسبابها أو بعمل ما يدفعها ، من الأمور المشروعة غير الممنوعة . وعلى الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة كلها ، أن يباشروا جميعاً باتخاذ الأسباب المشروعة لإزالة ما حلَّ فيهم من نكبات ومصائب ، وأن يصروا على ذلك بثبات وصبر والله تعالى دائماً مع الصابرين .

    يتبع


    الفصل الثاني عشر
    سنّة الله في الإيمان والتقوى والعمل الصالح
    [قانون التقوى والإيمان والعمل الصالح]
    288 ـ تعريف التقوى :
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه) 3. وقال صاحب المفردات : (التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور) 4 . ويمكن تعريف التقوى بأنها حفظ النفس عما يؤثم ومع الإثم العقاب . وذلك بفعل الواجب وترك المحرّم شرعاً .
    289 ـ تعريف الإيمان :
    الإيمان إذعان النفس للحق على سبيل التصديق وذلك باجتماع ثلاثة أشياء تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بحسب ذلك بالجوارح . ويقال لكل واحد من الاعتقاد والقول الصدق والعمل الصالح إيمان ، قال تعالى : (وما كان الله ليضيع إيمانكم) . وقال تعالى : (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) قيل معناه بمصدق لنا1 .

    290 ـ تعريف العمل الصالح :
    العمل : كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد . وقد ينسب إلى الجمادات ، والعمل قلما ينسب إلى ذلك . ولم يستعمل (العمل) في الحيوانات إلا في قولهم : البقر العوامل . والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيئة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا..)2 .

    291 ـ من ثمرة التقوى الفرقان للمتقين :
    قال تعالى : (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)3 . كلمة (الفرقان) في الآية كلمة جامعة مطلقة مثل كلمة (التقوى) . فالتقوى إذا شبهناه بالشجرة المثمرة ، فالفرقان هو الثمرة .
    (والفرقان) في أصل اللغة يعني الفصل بين الشيئين أو الأشياء . ومعنى الآية : إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه وبمقتضى سنته في نظام خلقه يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى وبسببها ملكة من العلم وهداية ونوراً في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل ، ونصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ومخرجاً من الشبهات ونجاة من الشدائد في الدنيا ومن العذاب في الآخرة4 .

    292 ، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً :
    قال تعالى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)5 أي من يتق الله بعمل ما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له مخرجاً من كل شدة ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يأمل ويبارك له فيما أتاه ومن يتوكل على الله أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه6 .

    293 ـ معية الله للمتقين :
    قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)7 . فالله تعالى مع المتقين بتأييده ونصره ومعونته وهديه . وهذه معية خاصة للمتقين كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق وهما في الغار كما حكاه الله عنه : (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ومعنى (الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) أي تركوا المحرمات وعملوا الواجبات فهؤلاء يحفظهم الله ويؤيدهم وينصرهم على أعدائهم8 .

    294 ـ عون الله للمتقين في الحرب :
    قال تعالى : (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ)9 . أي إن تصبروا على لقاء العدو وتتقوا معصيته يمددكم ربكم بما ذكر في الآية الكريمة10 .

    295 ـ بالإيمان والتقوى يحصل الرخاء :
    قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)1 . أي لو أن أهل القرى آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر واتقوا ما نهى الله عنه وحرمه لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض أي بالمطر والنبات ولكن كذبوا الرسل فأخذهم الله بالجدوبة والقحط بما كانوا يكسبون من الكفر والمعصية2 .

    296 ـ للمؤمن المتقي أجره في الدنيا والآخرة :
    قال تعالى : (.. وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)3 أي إن الله تعالى يؤجر المحسنين الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى ، يؤجرهم في الدنيا ويؤجرهم في الآخرة ، ولأجر الآخرة خير لهم لأنه دائم وأجر الدنيا متقطع . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والكافر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق4 .

    297 ـ نصر الله للمؤمنين :
    قال تعالى : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)5 ، أي ننصرهم في الدنيا والآخرة بأن يغلبوا أعداءهم في الدنيا بالقتال وبالحجة وإن غلبوا في بعض الأحيان امتحاناً لهم من الله تعالى ، ولكن العاقبة دائماً لهم6 .

    298 ـ إنجاء الله المؤمنين :
    قال تعالى : (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ)7 . والمعنى : فهل ينظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم حيث أهلكهم الله وأنجى رسله وأتباعهم المؤمنين وكذلك ننجي المؤمنين مثل ذلك الإنجاء ونهلك المشركين وحدهم كما اهلكنا أمثالهم من المشركين ، فقد مضت سنة الله أنه إذا أنزل الله العذاب بقوم أخرج من بينهم الرسل والمؤمنين وأنجاهم8 .

    299 ـ المؤمنون هم الأعلون :
    قال تعالى : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)9 أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن جهاد أعدائكم لما أصابكم ولا تحزنوا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة في معركة أحد (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) أي فلكم النصر في العاقبة (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه10 .

    300 ـ لا سبيل للكافرين على المؤمنين :
    قال تعالى : (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)11 ، أي إن الكافرين لا يكون لهم من حيث هم كافرون سبيل على المؤمنين من حيث هم مؤمنون يقومون بحقوق الإيمان ويتبعوا هديه . وكلمة ((سبيل)) هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم . وانتفاء السبيل للكافرين على المؤمنين عام في الدنيا والآخرة فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقاً ، وما غلب الكافرون المسلمين في الحروب السياسية وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون بل من حيث إنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه وأحكم عملاً بها والمسلمون تركوا ذلك1 . ويحتمل أن يكون المعنى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم ويستولوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان فإن العاقبة للمؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)2 . والظاهر أن النص عام في الدنيا والآخرة ، إنه وعد صريح من الله تعالى بأن لا يكون للكافرين سبيل على المؤمنين . والمؤمنون هم الذين قامت في نفوسهم حقيقة الإيمان ثم ظهرت هذه الحقيقة الإيمانية في الخارج بشكل أعمال مرضية وجهاد في سبيل الله وإخلاص كامل له واستسلام تام لشرعه حتى لم يعد في كيانهم شيء خارج عن الانقياد والخضوع المطلق لله رب العالمين وشرعه القويم . إن السبيل للكافرين في انتصارهم في بعض الأحيان على المؤمنين إنما كان أويكون لحدوث ثغرة في حقيقته الإيمانية ومن الإيمان ومستلزماته ومقتضياته أخذ العدّة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة . وبقدر هذه الثغرة في حقيقة الإيمان تكون الهزيمة الوقتية على المسلمين ثم يعود النصر للمؤمنين حقاً حين يوجدون3 .
    يتبع




    301 ـ المتاع الحسن للمؤمنين المتقين :
    ومن سنته تعالى العامة في خلقه تيسير سبل العيش الرغيد والحياة المريحة إلى أهل الإيمان والتقوى وإفاضة نعمه عليهم ، قال تعالى : (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ..)4 . طلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من قومه أن يعبدوا الله وحده وأن يستغفروه ويتوبوا إليه . وهذا كلّه الإيمان بالله وبرسوله وعبادته وحده وتقواه واستغفاره عن الذنوب السالفة والتوبة إليه فيما يستقبلونه من كل إعراض عن هدايته وتنكب عن سنته وأن يستمروا على ذلك ، وأنهم إن فعلوا ذلك كان جزاؤهم أن يمتعهم الله متاعاً حسناً الذي هو ثمرة عبادتهم لله وطاعتهم له واستغفارهم وتوبتهم إليه . والمتاع كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت ، والمتاع الحسن يعني تمتعهم بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش وبالأمن والراحة وبالنعم المتتالية عليهم .
    وتمتعهم هذا يستمر مدة أعمارهم . وقوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي يؤتي كل ذي عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله في الدنيا والآخرة5 .

    302 ـ الخصب وزيادة القوة بالإيمان والتقوى :
    ومن سنته تعالى في خلقه حصول الخصب بكثرة الأمطار وسعة العيش وزيادة القوّة لأهل التقوى والإيمان . قال تعالى فيما يحكيه عن قول هود عليه السلام لقومه : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)6 .
    والمعنى أن هوداً عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده المتضمنة الإيمان به وطاعته وتقواه وأن يستغفروه ويتوبوا إليه ، فإن فعلوا ذلك يسّر الله لهم سبل العيش الرغيد وأنزل عليهم المطر متتالياً يتلو بعضه بعضاً ، والمطر سبب كل خير من زرع وضرع زادهم قوة إلى قوتهم أي زادهم شدة إلى شدتهم وخصباً إلى خصبهم وعزاً إلى عزتهم وكثرة في المال والأولاد والنعم وقوة على الانتفاع بهذه النعم7 .

    303 ـ المؤمنون يرثون الأرض :
    قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)8 . أي ولقد كتبنا في الزبور ـ زبور داود ـ من بعد الذكر وهو التوراة ، أن الأرض أي أرض الأمم الكافرة يرثها المؤمنون ويستولون عليها بالفتوح

    وهذا هو المروي عن ابن عباس1 .

    304 ـ لا يحرم العامل المؤمن من ثمرة عمله :
    قال تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)2 . ومعنى لا كفران لسعيه أي لا حرمان لثواب عمله ذلك (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) أي مثبتون عمله في صحيفة عمله فلا يضيع بوجه ما3 .
    وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)4 . والمعنى أن من يعمل سيئة لا يجزى إلا مثلها أي بقدرها لأن الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فشيء حسن لأنه فضل وإحسان والله ذو الفضل العظيم ، ولذلك قال (بِغَيْرِ حِسَابٍ) وهو واقع في مقابلة (إِلَّا مِثْلَهَا) يعني أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير لئلا يزيد على ما تستحقه من جزاء ، أما جزاء العمل الصالح فبغير تقديروحساب بل ما شاء الله من الزيادة على مقدار الحسنة5 ، والإيمان شرط في اعتبار العمل الصالح والاعتداد به والثواب عليه ودخول الجنة بسببه6 .

    305 ـ بالإيمان والعمل الصالح تحصل الحياة الطيبة :
    قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)7 . هذه الآية الكريمة تبين سنّة من سنن الله تعالى ووعداً صادقاً منه تعالى بأن من يعمل صالحاً ذكراً كان أو أنثى فإنه سيحيا في هذه الدنيا حياة طيبة ييسرها الله تعالى له جزاء عمله الصالح ، وهذا إضافة إلى ما يناله من أجر حسن في الآخرة هو أحسن مما عملوه في الدنيا .

    306 ـ المقصود بالعمل الصالح :
    والمقصود بالعمل الصالح الذي هو من شروط الظفر بالحياة الطيبة وبالأجر الحسن في الآخرة هو العمل المشروع أي الموافق لما شرعه الله في في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم8 . أما العمل المخالف للشرع فلا يعتبر صالحاً ولا يستحق الجزاء المذكور في الآية الكريمة . ولا يشترط في العامل الذكورة فالذكر والأنثى سواء في استحقاق الحياة الطيبة بالعمل الصالح .

    307 ـ شرط الإيمان مع العمل الصالح:
    ويشترط مع العمل الصالح لإفادته الحياة الطيبة إيمان العامل بما يجب الإيمان به وهو صريح قوله تعالى (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وبهذا قال المفسرون من ذلك قول الرازي : (إن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان)9 . وكذلك صرح ابن كثير فقال في هذه الآية : (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله)10 .

    308 ـ هل الحياة الطيبة في الدنيا أم في الآخرة؟ :
    والحياة الطيبة الموعود بها من يعمل العمل الصالح هي الحياة في الدنيا وبهذا صرح المفسرون ، قال الزمخشري : (حَيَاةً طَيِّبَةً) يعني في الدنيا وهو الظاهر لقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله تعالى : (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحن ثواب الآخرة)11 .
    وفي تفسير الرازي : وهذه الحياة الطيبة هل تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة؟ أقوال (القول الأول) قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة1 . وقال الآلوسي في قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال غير واحد هي في الدنيا2 .

    309 ـ المقصود بالحياة الطيبة :
    والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب . وعن علي رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه . وقال الضحاك هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال أيضاً : هي العمل بالطاعة والانشراح بها3 .
    وقال الإمام ابن كثير : والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه)4 .
    وأوضح الزمخشري كيف تكون الحياة الطيبة لمن يعمل العمل الصالح وهو مؤمن فقال : (وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً : إن كان موسراً فلا مقال فيه وإن كان معسراً فمعه ما تطيب عيشه وهو القناعةوالرضا بقسمة الله . وأما الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه يتهنأ بعيشه)5 .

    310 ـ الحياة الطيبة تتحقق بأشياء كثيرة :
    والواقع أن الحياة الطيبة تتحقق بأشياء كثيرة ، بالرصا والاطمئنان وانشراح الصدر والشعور بالسعادة وطيب العيش ، وهذه كلها معانٍ تنبعث من النفس وتكون في داخل المؤمن وهي غير متوقفة على الأمور الخارجية كالمال الوفير والمكان المريح والطعام اللذيذ واللباس الفاخر الثمين وغير ذلك من الأمور المادية التي لا تنكر أنها تهيىء ما يرتاح به الإنسان ويلتذ بها لذة بدنية غير منكورة . ولكن السعادة الحقيقية وانشراح الصدر والشعور بالغبطة والهناء هي التي تجعل الحياة طيبة ، وهذه المعاني غير متوقفة على الأشياء المادية الخارجية وبالتالي لا تتوقف عليها الحياة الطيبة . وما أحسن قول الشهيد سيد قطب إذ يقول : (وإن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض ، ولا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال ، فقد تكون به وقد لا يكون معها .
    وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه ، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة وسكن البيوت ومودة القلوب ، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله)6 .
    يتبع




    311 ـ الحياة الطيبة للمؤمن لا تنقص من أجره في الآخرة :
    والحياة الطيبة في الدنيا التي يظفر بها عامل الصالحات وهو مؤمن ، هذه الحياة لا تنقص من أجره في الآخرة ، بل إن الله تعالى وعد بأن يكون أجره في الآخرة على أحسن عمله في الدنيا ، فما أعظمه من جزاء من رب كريم جواد7 .




    الفصل الثالث عشر
    سنّة الله في الاستدراج
    [قانون الاستدراج]
    312 ـ معنى الاستدراج في اللغة :
    جاء في لسان العرب8 : استدرجه أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو .
    وفي مفردات الراغب1 : سنستدرجهم معناه نأخذهم درجة فدرجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئاً فشيئاً كالمراقي والمنازِل في ارتفاعها ونزولها .
    وفي المعجم الوسيط2 : استدرج الله العبد : أمهله ولم يباغته .
    وفي بصائر ذوي التمييز3 : استدرج الله المرء : جرّه قليلاً قليلاً إلى العذاب .

    312 ـ معنى الاستدراج عند المفسرين :
    أ ـ جاء في تفسير الزمخشري : استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه .
    ب ـ وفي تفسير القرطبي : (الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة)4 .
    ج ـ وفي تفسير الآلوسي : الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعاداً أو بالعكس فيكون استنزالاً5.

    314 ـ استدراج الكفرة والعصاة :
    قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)6 فمن سنة الله تعالى في عباده الاستدراج . ومعنى الآية أن الله يستدرج الكفرة والعصاة بأن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد الكفر والمعاصي . وهم لا يعلمون أي وهم لا يشعرون أن هذا استدراج لهم ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة لهم مع أنه في نفس الأمر إهانة لهم واستدراج .
    (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعقوبة ليزدادوا إثماً وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير والإكرام لهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمى الله تعالى إحسانه وتمكينه للكفرة والعصاة كيداً لما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للسقوط ف الهلكة ووصف كيده بانه متين لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك وأن هذا الهلاك لا يدفعه شيء . وقد قيل كم مستدرج بالإحسان إليه وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه7 .

    315 ـ استدراج المكذبين :
    ومن سنته تعالى في الاستدراج استدراج المكذبين بآياته تعالى ، قال عزّ وجلّ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)8 . والمعنى أن الذين كذبوا بآيات الله ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم (سَنَسْتَدْرِجُهُم) أي سنقربهم إلى الهلاك شيئاً فشيئاً (مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم وذلك بإدرار النعم عليهم مع انغماسهم في الغي والتكذيب ، فكلما جدد الله لهم نعمة ازدادوا بطراً وأشراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم عليهم ظانين أن ذلك من الله إكرام لهم وتقريب لهم منه ، وإنما هذه النعم خذلان منه وتبعيد واستدراج . (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ليزدادوا إثماً (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمّاه الله تعالى كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وإنعام وفي الحقيقة خذلان ، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على حين غرّة وهم أغفل ما يكونون9 . وفي تفسير المنار : الكيد كالمكر ، وهو التديبر الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسؤوه من مخبره وغايته . ومعنى الآية : أمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين وأمدّ لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحرب كيداً أو مكراً بهم لا حباً بهم ونصراً لهم ، وفي حديث البخاري : (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)10 .

    316 : استدراج الأمم :
    قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)1 . وقوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) أي فلما أعرضوا عما ذكّروا به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون . قال ابن كثير : وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ولهذا قال تعالى : (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ) من الأموال والأولاد والأرزاق (أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً) أي على غفلة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير . وروى الإمام أحمد عن هقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فَلَمَّا نَسُواْ ذُكِّرُواْ بِهِ..) الخ2 .
    وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكراً بهم واستدراجاً لهم (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ) فرح بطرٍ (بِمَا أُوتُواْ) من النعم ولم يقوموا بحق المنعم (أَخَذْنَاهُم) عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من النجاة والرحمة (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أي استؤصلوا ولم يبق منهم أحد (وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على ما جرى عليهم من النكال والغهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها3 .

    317 ـ سنّة الله العامة في المستدرجين :
    ومن آيات الاستدراج التي ذكرناها في الفقرات السابقة يتبين لنا أن سنة الله في المستدرجين إمهالهم بعد أن لم يتعظوا بما امتحنهم الله به من صفوف البأساء والضرّاء أو بما امتحنهم به من النعم أو بعد أن كذبوا بآيات الله التي من شأنها أن تحمل المتأمل فيها على الإيمان ، وإن سنة الله تعالى في هؤلاء مدة إمهالهم أن يوسع عليهم الرزق والخيرات ويزيد عليهم الرخاء الذي هم فيه ويعطيهم ما يتمنون من النعم على وجه الاستدراج لهم وزيادة إثمهم لما يقابلون هذه النعم بالمعاصي .

    318 ـ ما يجب الاتعاظ به من سنّة الله في المستدرجين :
    إن نعم الله تقابل بالشكر ، وهذا هو منهج المؤمنين ومسلكهم في الحياة ، فكل نعمة يعطاها المؤمن يقابلها بطاعة جديدة وشكر جديد ، فإذا غفل عن هذا ونسي شكر النعمة بشكر المنعم فهو مقصر وغافل ، فإذا قابل النعمة بالمعصية فهو مستدرج . والفاصل بين المقصر والمستدرج خيط دقيق جداً ، فإن المقصر في شكر النعمة غفلة منه وجهلاً قد ينزلق إلى منحدر الاستدراج ، ولذلك كان العارفون يخشون على أنفسهم ((الاستدراج)) وأن يكونوا مستدرجين إذا توالت عليهم النعم مع احتمال تقصيرهم في شكرها فيكون ذلك علامة استدراجهم ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً ، فإني أسمعك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)4 .
    وقال الحسن البصري رحمه الله : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه5 .

    319 ـ الخوف من الاستدراج :
    وعلى هذا فينبغي للفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة بمجموعها أن لا يغتروا بنعم الله عليهم وأن يخافوا على أنفسهم من أن يكون تواتر النعم عليهم استدراجاً لهم وليس إكراماً وإنعاماً لهم . والذي يرجح أن هذه النعم إكرام لهم من الله تعالى مسارعتهم إلى شكرها بشكر المنعم عليها بالقيام بحق نعم الله ووضعها في مواضعها والزيادة في طاعة الله والإتيان بما يحبه من الجهاد في سبيله .
    يتبع




    311 ـ الحياة الطيبة للمؤمن لا تنقص من أجره في الآخرة :
    والحياة الطيبة في الدنيا التي يظفر بها عامل الصالحات وهو مؤمن ، هذه الحياة لا تنقص من أجره في الآخرة ، بل إن الله تعالى وعد بأن يكون أجره في الآخرة على أحسن عمله في الدنيا ، فما أعظمه من جزاء من رب كريم جواد7 .




    الفصل الثالث عشر
    سنّة الله في الاستدراج
    [قانون الاستدراج]
    312 ـ معنى الاستدراج في اللغة :
    جاء في لسان العرب8 : استدرجه أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو .
    وفي مفردات الراغب1 : سنستدرجهم معناه نأخذهم درجة فدرجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئاً فشيئاً كالمراقي والمنازِل في ارتفاعها ونزولها .
    وفي المعجم الوسيط2 : استدرج الله العبد : أمهله ولم يباغته .
    وفي بصائر ذوي التمييز3 : استدرج الله المرء : جرّه قليلاً قليلاً إلى العذاب .

    312 ـ معنى الاستدراج عند المفسرين :
    أ ـ جاء في تفسير الزمخشري : استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه .
    ب ـ وفي تفسير القرطبي : (الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة)4 .
    ج ـ وفي تفسير الآلوسي : الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعاداً أو بالعكس فيكون استنزالاً5.

    314 ـ استدراج الكفرة والعصاة :
    قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)6 فمن سنة الله تعالى في عباده الاستدراج . ومعنى الآية أن الله يستدرج الكفرة والعصاة بأن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد الكفر والمعاصي . وهم لا يعلمون أي وهم لا يشعرون أن هذا استدراج لهم ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة لهم مع أنه في نفس الأمر إهانة لهم واستدراج .
    (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعقوبة ليزدادوا إثماً وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير والإكرام لهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمى الله تعالى إحسانه وتمكينه للكفرة والعصاة كيداً لما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للسقوط ف الهلكة ووصف كيده بانه متين لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك وأن هذا الهلاك لا يدفعه شيء . وقد قيل كم مستدرج بالإحسان إليه وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه7 .

    315 ـ استدراج المكذبين :
    ومن سنته تعالى في الاستدراج استدراج المكذبين بآياته تعالى ، قال عزّ وجلّ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)8 . والمعنى أن الذين كذبوا بآيات الله ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم (سَنَسْتَدْرِجُهُم) أي سنقربهم إلى الهلاك شيئاً فشيئاً (مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم وذلك بإدرار النعم عليهم مع انغماسهم في الغي والتكذيب ، فكلما جدد الله لهم نعمة ازدادوا بطراً وأشراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم عليهم ظانين أن ذلك من الله إكرام لهم وتقريب لهم منه ، وإنما هذه النعم خذلان منه وتبعيد واستدراج . (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ليزدادوا إثماً (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمّاه الله تعالى كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وإنعام وفي الحقيقة خذلان ، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على حين غرّة وهم أغفل ما يكونون9 . وفي تفسير المنار : الكيد كالمكر ، وهو التديبر الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسؤوه من مخبره وغايته . ومعنى الآية : أمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين وأمدّ لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحرب كيداً أو مكراً بهم لا حباً بهم ونصراً لهم ، وفي حديث البخاري : (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)10 .

    316 : استدراج الأمم :
    قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)1 . وقوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) أي فلما أعرضوا عما ذكّروا به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون . قال ابن كثير : وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ولهذا قال تعالى : (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ) من الأموال والأولاد والأرزاق (أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً) أي على غفلة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير . وروى الإمام أحمد عن هقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فَلَمَّا نَسُواْ ذُكِّرُواْ بِهِ..) الخ2 .
    وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكراً بهم واستدراجاً لهم (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ) فرح بطرٍ (بِمَا أُوتُواْ) من النعم ولم يقوموا بحق المنعم (أَخَذْنَاهُم) عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من النجاة والرحمة (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أي استؤصلوا ولم يبق منهم أحد (وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على ما جرى عليهم من النكال والغهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها3 .

    317 ـ سنّة الله العامة في المستدرجين :
    ومن آيات الاستدراج التي ذكرناها في الفقرات السابقة يتبين لنا أن سنة الله في المستدرجين إمهالهم بعد أن لم يتعظوا بما امتحنهم الله به من صفوف البأساء والضرّاء أو بما امتحنهم به من النعم أو بعد أن كذبوا بآيات الله التي من شأنها أن تحمل المتأمل فيها على الإيمان ، وإن سنة الله تعالى في هؤلاء مدة إمهالهم أن يوسع عليهم الرزق والخيرات ويزيد عليهم الرخاء الذي هم فيه ويعطيهم ما يتمنون من النعم على وجه الاستدراج لهم وزيادة إثمهم لما يقابلون هذه النعم بالمعاصي .

    318 ـ ما يجب الاتعاظ به من سنّة الله في المستدرجين :
    إن نعم الله تقابل بالشكر ، وهذا هو منهج المؤمنين ومسلكهم في الحياة ، فكل نعمة يعطاها المؤمن يقابلها بطاعة جديدة وشكر جديد ، فإذا غفل عن هذا ونسي شكر النعمة بشكر المنعم فهو مقصر وغافل ، فإذا قابل النعمة بالمعصية فهو مستدرج . والفاصل بين المقصر والمستدرج خيط دقيق جداً ، فإن المقصر في شكر النعمة غفلة منه وجهلاً قد ينزلق إلى منحدر الاستدراج ، ولذلك كان العارفون يخشون على أنفسهم ((الاستدراج)) وأن يكونوا مستدرجين إذا توالت عليهم النعم مع احتمال تقصيرهم في شكرها فيكون ذلك علامة استدراجهم ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً ، فإني أسمعك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)4 .
    وقال الحسن البصري رحمه الله : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه5 .

    319 ـ الخوف من الاستدراج :
    وعلى هذا فينبغي للفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة بمجموعها أن لا يغتروا بنعم الله عليهم وأن يخافوا على أنفسهم من أن يكون تواتر النعم عليهم استدراجاً لهم وليس إكراماً وإنعاماً لهم . والذي يرجح أن هذه النعم إكرام لهم من الله تعالى مسارعتهم إلى شكرها بشكر المنعم عليها بالقيام بحق نعم الله ووضعها في مواضعها والزيادة في طاعة الله والإتيان بما يحبه من الجهاد في سبيله .
    يتبع
    avatar
    شباب عرب أون لاين
    رئيس التحرير
    رئيس التحرير


    الدولة : مصر
    عدد المساهمات : 23173
    تاريخ التسجيل : 27/02/2011
    الموقع : عرب اون لاين

    تاب كتاب السنن الالهيه2  Empty رد: تاب كتاب السنن الالهيه2

    مُساهمة من طرف شباب عرب أون لاين 2/14/2012, 23:27

    الفصل الرابع عشر
    سنّة الله في المكر والماكرين
    [قانون المكر]
    320 ـ تعريف المكر :
    أ ـ المكر : احتيال في خفية ، والمكر : الاحتيال والخديعة1 .
    ب ـ المكر : صرف الغير عما يقصده بنوع من الحيلة2 .
    ج ـ المكر : إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى عليه3 .
    د ـ المكر : وهو في الأصل التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى مالا يحتسب4 .

    321 ـ التعريف المختار :
    والتعريف الأخير هو ما نختاره مع شيء من التعديل لأن المكر لا يشترط في تعريف حقيقته إفضاؤه إلى ما جاء في التعريف ، ولهذا أرجح في تعريف المكر أن يقال فيه ، المكر : تدبير خفي محكم لإيقاع ما يريده الماكر بالممكور به من حيث لا يحتسب .

    322 ـ أنواع المكر :
    قال العلماء : المكر نوعان محمود ومذموم ، والمحمود ما يتحرى به فعل جميل . والمذموم ما يتحرى به فعل قبيح . ومن الأول قوله تعالى (والله خير الماكرين) . ومن الثاني ـ أي المذموم ـ قوله تعالى : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)5 . ولهذا كان المكر : الحسن والسيء جميعاً . وفي الماكرين يوجد الأخيار والأشرار6 .

    323 ـ وجه إضافة المكر إلى الله تعالى :
    وإضافة المكر إلى الله تعالى على وجوه : (الأول) تسمية جزاء المكر بالمكر . أي تسمية الجزاء الذي يوقعه الله بالماكر ب(المكر) كقوله تعالى : (وجزاء سيئة سيئة مثلها) . (والثاني) تسمية معاملة الله تعالى للماكرين مكراً لكونها شبيهة بالمكر7 ، (الثالث) تسمية تدبير الله تعالى الذي يخفى على عباده مكراً لخفائه . وهو إنما يكون لإقامة سننه واتمام حكمه وحكمته وإيقاع عذابه في أعدائه ، ودفعه عن أوليائه ، وكلها خير في نفسها وإن قصَّر العباد في معرفتها أو فهمها8 .

    324 ـ الغالب في المكر استعماله في السوء :
    قلنا إن المكر يعني التدبير الخفي والاحتيال لبلوغ المقصود بالممكور به على وجه يخفى عليه . وهذا المعنى لا يكون غالباً إلا في الشر والفساد لأن من يريد بغيره الخير والصلاح لا يكاد يحتاج إلى إخفائه ، ولهذا غلب استعمال المكر في السوء والشر والفساد وإيقاع الغير فيها ، وصرفه إلى الباطل9 .

    325 ـ الكبراء هم أهل المكر غالباً :
    قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)10 . والمعنى : جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر أي العظماء والرؤساء فيها . وإنما خصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد وأقوى من غيرهم على حمل الناس على اتباعهم في باطلهم11 ، وقال الزجاج إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل

    رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم1 .

    326 ـ لماذا كان المجرمون أكابر المجتمع؟ :
    ولكن لماذا كان المجرمون أكابر المجتمع والرؤساء فيه؟ والجواب : صاروا أكابر المجتمع مع كونهم مجرمين بسبب غفلة أهل الحق وضعفهم وتفرقهم وجهلهم مما سهّل على أهل الباطل أن يسيطروا عليهم ويتجرأوا عليهم وينصبوا أنفسهم قادة ورؤساء وعظماء وكبراء عليهم وعلى المجتمع كله . وقد مضت سنة الله أن المجتمع الذي يتفرق فيه أهل الحق ويجبنون عن مواجهة المجرمين ، ويجتمع فيه المجرمون ويتحدون ويتقوون ويتقدمون لتنفيذ إرادتهم ، أن هؤلاء المجرمين هم الذين يسيطرون على المجتمع ويؤئرون فيه ويصيرون حكامه وقادته ، يجعلون أهل الحق المتفرقين الجبناء معزولين عن المجتمع معن التأثير فيه . إن الحق لا بد له من قوة تحميه وتثبت وجوده في المجتمع فإذا فقد هذه القوة برزت قوة الباطل بقوة أهله وبرز المبطلون المجرمون وصاروا هم أكابر المجتمع وقادته والرؤساء فيه .

    327 ـ لماذا يمكر المجرمون بالناس؟ :
    ولكن لماذا يمكر المجرمون بالناس ويصرفونهم عن الحق ويدفعونهم إلى الباطل ويوقعونهم في الضلال والفساد؟ لماذا لا يكتفي المجرمون برياسة المجتمع وصيرورتهم أكابر فيه ويتركون الناس وشأنهم؟ والجواب : إن المجرمين يخافون ظهور الحق في المجتمع وتجمع الناس حوله فينكشف بهذا الظهور إجرامهم وباطلهم مما يفقدهم رياستهم ومراكزهم ولهذا كان المجرمون في الماضي يعادون رسل الله ويصرفون الناس عن دعوتهم كما فعلوه بسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين . وسيظل هؤلاء الجرمون هذا دينهم ومنهجهم : يعادون المؤمنين الدعاة إلى الحق في كل مكان وزمان . فهي سنة ماضية وثابتة بأن ينتدب في كل قرية نفر من أكابر المجرمين فيها يقفون موقف العداء من دين الله ومن الدعاة إليه لأن دين الله يأمر بتجريد هؤلاء الاكابر المجرمين من السلطان الذي يستطيلون به على الناس ويستذلون به الرقاب .

    328 ـ أنواع المكر السيىء :
    أصحاب المكر السيء لا يقف مكرهم عند حدّ من حيث نوع المكر ومن حيث من يوجهون مكرهم إليه . ونبين فيما يلي ما أشار إليه القرآن الكريم من أنواع المكر السيء الذي باشره أهله من حيث طبيعة هذا المكر وأنواعه ، ومن حيث من وُجِّه إليهم هذا المكر السيء .

    329 ـ أنواع المكر السيء من حيث طبيعته :
    أولاً : القتل والحبس والإبعاد :
    من مكر المجرمين ـ أكابر المجتمع ـ تدبيرهم واحتيالهم لإيقاع الأذى برسل الله وأتباعهم بالقتل أو الحبس أو الإبعاد من ديارهم . ونذكر فيما يلي بعض ما جاء في القرآن الكريم بشأن هذا النوع من المكر .
    أ ـ قال تعالى في مكر اليهود بعيسى بن مريم عليه السلام : (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)2 . وجاء في تفسيرها : ومكر الكفار من بني إسرائيل الذين أحسَّ عيسى منهم الكفر ، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة3 .
    ب ـ ومن مكر الكفرة برسولهم بقتله وقتل أهله ما قصه الله علينا من أخبار ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام وكيف أن رهطاً منهم اتفقوا على قتله ، قال تعالى : (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)4 ، وجاء في تفسير هذه الآيات : أن المدينة هي (الحجر) التي فيها ثمود قوم صالح عليه السلام وكان فيها (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي تسعة أنفس وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام ، وكانوا من أبناء أشرافهم وكانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون . يعني أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح . فهؤلاء قالوا متقاسمين أي حالفين بالله لنباغت صالحاً وأهله ليلاً فنقتلهم . ومكروا ، وكان مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله . ومكر الله : تدبيره بإهلاكهم وإهلاك قومهم من حيث لا يشعرون1 .
    ج ـ وعن مكر كفار قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وتدبيرهم الخبيث لقتله أو حبسه أو إخراجه من مكة ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)2 . تشير هذه الآية الكريمة إلى مكر كفار قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ونوع المكر الذي دبروه . وكان من أخبار مكرهم هذا أنهم اجتمعوا في دار الندوة بمكة وتشاوروا فيما يفعلونه برسول الله صلى الله عليه وسلم واقترحوا أحد ثلاثة أشياء هي : ((ليثبتوك)) أي ليسجنوك أو ليقيدوك ، أو ((فيقتلوك)) بسيوفهم ، أو ((يخرجوك)) من مكة3 .
    330 ـ ثانياً : تحريش الناس على أذى الرسل وأتباعهم :
    قال تعالى عن قوم نوح ومكرهم : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)4 والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح عليه السلام وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه والاستماع منه وقولهم لهم : (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)5 . وفي تفسير القرطبي : قيل مكرهم : تحريشهم سفهاءهم على قتل نوح عليه السلام6 .

    331 ـ ثالثاً : صد الناس عن دعوة الحق :
    ومن المكر السيء الذي قاموا به في الماضي ويقومون به في كل حين سعيهم الحثيث في صدهم الناس عن دعوة الحق بزخرف القول ، وبإشاعة الأباطيل والافتراءات على هذه الدعوة المباركة وبتزيينهم الضلال الذي هم عليه في أعين النسشاس ، قال تعالى : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيل.ِ..)7 ، قال مجاهد : مكرهم أي ماهم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار8 .
    وفي تفسير الآلوسي : مكرهم أي كيدهم للإسلام بشركهم أو تمويههم الأباطيل9 . وقال تعالى : (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) قال ابن كثير في قوله تعالى (ليمكروا فيها) المراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال10 . وهذا نوع من الصد عن دعوة الحق .
    وقال مجاهد : كان كفار مكة يجلسون على كل عقبة أربعة من أعوانهم الكفرة ينفرون الناس من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل من قبلهم من الأمم السابقة بأنبيائهم11 .
    وقال تعالى : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) قال الإمام الرازي: مكرهم السيء هو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان12 .

    332 ـ أنواع المكر السيء بالنسبة إلى من يوجه إليهم :
    أولاً : المكر برسل الله وأتباعهم :
    يوجه أصحاب المكر السيء مكرهم إلى أنبياء الله واتباعهم المؤمنين ، فيحاولون إيذاءهم جسدياً ويشيعون فيهم الأباطيل والأكاذيب لصد الناس عنهم وتنفيرهم عن دعوتهم وقد ذكرنا بعض الآيات في ذلك ، والذي يتولى كبر هذا المكر السيء الموجه إلى رسل الله وأتباعهم المؤمنين هم القادة والرؤساء المجرمين في كل مجتمع . قال تعالى : (ولقد جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) وقد بيّنا أقوال المفسرين فيها وسبب تخصيصهم بالذكر وهو أنهم أقدر من غيرهم على الإضرار والإفساد .



    333 ـ ثانياً : المكر بالضعفاء :
    وأهل المكر السيء من أهل الرياسة والقيادة في المجتمع يمكرون بالضعفاء من أتباعهم لصدهم عن دعوة الحق وصرفهم عن قبولها بزخرف من المقال والفعال . لأن هؤلاء الضعفاء يتأخرون بمكر هؤلاء الماكرين لما لهم من نفوذ وسلطان عليهم وعلى المجتمع وقد أخبرنا الله تعالى عن هؤلاء الأتباع الضعفاء والمتبوعين كيف يتبادلون اللوم والعتاب والاتهامات يوم القيامة قال تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)1 . والمستضعفون هم الأتباع . والمستكبرون هم الرؤساء ، ولكن هذا العتاب واللوم وتبادل الاتهامات لا يفيدهم شيئاً ولا ينفعهم فكلهم نادمون وينال العقاب : المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم . ولهذا قال تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي في أعناق هؤلاء الأتباع والمتبوعين2 .

    334 ـ عقاب أهل المكر السيىء :
    أهل المكر السيء لا يفلتون من العقاب ، وإذا ظنوا ذلك فهم واهمون ومخطئون وخاسرون قال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)3 قال الإمام القرطبي في قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ) أي عذابه وجزاءه على مكرهم4 .

    335 ـ لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله :
    قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)5 أي استكبروا في الأرض عن اتباع آيات الله ومكروا بالناس في صدهم عن سبيل الله ، ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله أي وما يعود وبال ذلك المكر إلا عليهم أي على أصحاب المكر أنفسهم دون غيرهم6 . وقال الآلوسي في قوله تعالى : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي لا يحيط ولا يصيب ولا ينزل المكر السيء إلا بأهله . والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها ، والله يمهل ولا يهمل . وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك7 .

    336 ـ سؤال وجوابه :
    فإن قيل كثيراً ما نرى أن الماكر يمكر ويغلب بمكره السيء ، والآية (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) تدل على عدم ذلك . قال الإمام الرازي بعد أن أورد هذا السؤال : والجواب من وجوه : (الأول) أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكره كفار مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على قتله أو إخراجه ولم يحق مكرهم السيء إلا بهم حيث قتلوا في معركة بدر وغيرها. (الوجه الثاني) هو أن نقول : المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المكر وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) إلا أن الأمور بعواقبها ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ، ويبين هذا المعنى قوله تعالى : (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها فيهلكون كما هلك الأولون8 .

    337 ـ تكملة جواب السؤال :
    والحقيقة أن قوله تعالى : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) قانون عام أي سنة عامة من سنن الله في حياة البشر وعلاقاتهم فيما بينهم مثل السنن العامة التي تكلمنا عليها ، فهي لا تتخلف أبداً ولكن نفاذها وسريان حكمها يستلزم تحقق أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها . كما أن لنفاذ بعض السنن العامة أوجهاً متعددة ، وقد يركز الناس على وجه واحد من النصر أو على وجه واحد من إحاطة المكر السيء بأهله ، بينما يريد الله تعالى نفاذ سنته في وجه آخر وصورة أخرى من صور نفاذ هذه السنة . كما أن نفاذ السنة لا يستلزم النفاذ الفوري لها إذا تحققت أسبابها وشروطها وانتفت موانعها ، فقد يكون من طبيعة هذا النفاذ بالنسبة لهذه السنة العامة أو بالنسبة لهذا الشخص أو بالنسبة لهذه الجماعة تأخر هذا النفاذ إلى وقت يعلمه الله تعالى ولا نعلمه نحن على وجه الدقة في سنّة الله في الظلم والظالمين ، فهذه سنّة عامة تقضي بهلاك الظالمين وهي سنة لا تتخلف وإن كنا نجهل ميعاد وتاريخ هلاك الظاليمن على وجه الدقو والضبط . وكذلك سنّة الله في المكر السيء أنه لا ينزل إلا بأهله متى تحقق شروطه وانتفت موانعه وحلّ وقت نفاذه وإن كنا نجهل هذا الوقت بالدقة والضبط .

    338 ـ عقاب المكر السيء في الدنيا والآخرة :
    وسنّة الله تعالى في المكر السيء وأهله إصابتهم بالعذاب في الدنيا والآخرة قال تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ)1 . قال الزمخشري في هذه الآية : (مَكْرُهُمْ) أي كيدهم للإسلام بشركهم ، وقوله تعالى : (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ولذلك سمّاه الله عذابا2ً .
    وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى : (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبة من الله تعالى على كفرهم (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ) لشدته ودوامه3 .

    339 ـ عقاب الماكرين من حيث لا يحتسبون :
    وعقاب الله تعالى بأهل المكر السيء يأتيهم ويحل فيهم من حيث لا يتوقعون مجيئه منه ، وهذا من مكر الله تعالى بهم ، قال تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) قال الإمام القرطبي في قوله تعالى : (فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ) هذا تمثيل ، والمعنى : أهلكوا فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل : أبطل تدبيرهم ومكرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه : (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) أي من حيث ظنوا أنهم في أمان4 . وهذا العذاب النازل بأهل المكر السيء والمُخبر عنه في هذه الآية مباشرة : (ثم يوم القيامة يخزيهم) أي يذلهم . فالظاهر أن ضمائر الجمع للذين مكروا من قبل كأنه قيل : قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة5 .

    340 ـ انكشاف أمر الماكرين :
    قال تعالى : (..وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ)6 قال مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب : هم المراؤون بأعمالهم : يعني يمكرون بالناس ، يوهمونهم أنهم في طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عز وجل يراؤون بأعمالهم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم المشركون . قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر القولين : والصحيح أن الآية عامة ، والمشركون داخلون فيها بطريق الأولى ، ولهذا قال تعالى : (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى ، فإنه ما أسرّ أحدٌ سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسرّ أحدٌ سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر . فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية7 .


    341 ـ الله أسرع مكراً :
    قال تعالى : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)1 والمعنى ، إذا كشف الله تعالى عن الكفار ضراً قد أصابهم وأذاقهم رحمة منه ، ما كان منهم إلا أن بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به بدلاً من الشكر والإقلاع عن الكفر والتكذيب . ومن مكرهم لصرف االناس عن الاتعاظ بما نالهم من رحمة الله بعد كشف الضر عنهم قولهم إنّ ما وصلهم من نعمة هو من المصادفات ولم يحملهم ذلك على الإيمان بالله وشكره .
    (قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يسرعون في المكر بآيات الله تعالى إن الله تعالى أسرع منهم مكراً فقد دبَّر عقابهم وهو موقعه بهم قبل أن يدبروا كيف يعملون لإطفاء نور الإسلام ، إذ سبق في تدبير الله تعالى لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال أن يعاقبهم على مكرهم عقاباً في الدنيا قبل الآخرة، فهو عالم بمكرهم لا يخفى عليه منه شيء2 .

    342 ـ لله المكر جميعاً :
    قال تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)3 . وصفهم الله بالمكر ثم جعل مكرهم كالمعدوم بالإضافة إلى مكره تعالى فقال : (فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) ثم فسَّر ذلك بقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم غفلة مما يراد بهم4 . وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ، أي لمن عاقبة دار الدنيا ثواباً وعقاباً ، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة5 .
    يتبع


    343 ـ العبرة بسنّةالله في المكر والماكرين :
    والعبرة فيما ذكرناه من سنة الله تعالى في المكر السيء وأهله أن يعلم المسلمون أفراداً كانوا أو جماعات أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله وأن عاقبته تظهر في الدنيا بفضح الماكرين وانكشاف أمرهم وحلول العذاب فيهم كما بينا من قبل . وجاء في تفسير ابن كثير ، قال محمد بن كعب القرظي : ثلاث من فعلهن لم ينج من العذاب حتى ينزل به : من مكر أو بغى أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) وقوله تعالى : (إنما بغيكم على أنفسكم) ، وقوله تعالى : (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه)9 .

    344 ـ ما تعتبر به الجماعة المسلمة :
    ومما ينبغي أن تعتبر به الجماعة المسلمة ، وهي تدعو إلى الإسلام ، أن سنة الله في المكر والماكرين سنة ماضية فيها ، فأهل المكر السيء لا ينفكون عن مكرهم بالمؤمنين وبالدعاة منهم ، وبالجماعة المسلمة التي تنظم عمل الدعوة إلى الغسلام . ومكر أهل المكر السيء لا يقف عند حدّ ، فكل ما يرونه محققاً لغرضهم الخبيث وهو محق الدعوة إلى الله وصرف الناس عنها وعن الجماعة المسلمة فعلوه ، فالكذب ولصق التهم بالدعاة وبالجماعة المسلمة وبالتآمر عليها وعلى قادتها وأعضائها والسعي الحثيث لتعطيل نشاطها ولو بحبسهم أو إخراجهم من ديارهم أو قتلهم ، كل ذلك بعض مكرهم فهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة . فهذا الصنيع من أهل المكر السيء سنة ماضية ، ولكن الغلبة دائماً لاهل الحق لأنهم لا يخوضون المعركة وحدهم ضد الماكرين وإنما معهم الله جلّ جلاله ما داموا معه بالتوكل عليه والثقة به والالتزام بشرعه والاهتداء بسنته العامة في تدلفع الحق والباطل وأخذهم بالأسباب ومنها الحذر لإبطال مكر الماكرين . فعلى الجماعة المسلمة ان تلاحظ ذلك لأنها في مواجهة مستمرة مع أهل المكر لاسيما أكابرهم وسادتهم .




    الفصل الخامس عشر
    سنّة الله في طلب الدنيا والآخرة
    [قانون طلب الدنيا والآخرة]
    345 ـ المقصود بطلب الدنيا والآخرة :
    نقصد بطلب الدنيا في موضوعنا إرادة الشخص لها والحرص عليها وإيثارها على الآخرة مطلقاً وعند تزاحمها مع متطلبات الآخرة . فرغبة مريدها فيها وتعلق قلبه بها وسعيه لها .
    ونقصد بطلب الآخرة إرادة الشخص لها والحرص عليها وإيثارها على الدنيا مطلقاً وعند تزاحمها مع متطلبات الدنيا . فرغبة مريدها فيها وتعلق قلبه بها وسعيه لها .
    346 ـ سنة الله في طلاب الدنيا :
    أولاً : من حيث نصيبهم منها :
    سنّة الله في طلاب الدنيا من حيث نصيبهم منها ، أنهم يُعطون ما قسم لهم وليس ما يريدونه ويحرصون عليه ، قال تعالى : (وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)1 أي من كان عمله للدنيا أعطي شيئاً منها لا يريده ويبتغيه ، وهو رزقه الذي قسم له ، وما له نصيب قط في الآخرة2 . وهذا الذي يعطاه طالب الدنيا إنما هو لمن يشاء الله إعطاءه هذا النصيب لأن هذه الآية مقيدة بالآية الأخرى وهي : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً)3 .
    وقال تعالى : (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها)4 . أي من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره الله له ولم يكن له في الآخرة من نصيب5 ، وهذه الآية مقيدة أيضاً بآية : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ) فلا يُعطى طالب الدنيا من ثوابها إلا إذا شاء الله إعطاءه وبالقدر الذي يشاؤه تعالى6 .

    347 ـ ثانياً : توفيه أجور أعمالهم في الدنيا :
    ومن سنة الله في طلاب الدنيا أنه يوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا فيخرجون من الدنيا ولا حسنة لهم من تلك الأعمال يكافؤون عليها في الآخرة لأنهم لم يعملوها للآخرة ، وإنما للدنيا فأثرها ونتيجتها في الدنيا فقط ، ولا بقاء ولا وزن لها في الآخرة قال تعالى : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)7 .
    والمعنى : إن من أتى منهم من أعمال صالحة بحسب الظاهر مثل صلة الرحم والصدقة على الفقراء وأراد بهذه الأعمال الصالحة (الدنيا وزينتها) أي ما يزين الدنيا ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية فلا ينقصون منها . أي إن كل ما يستحقون بها من ثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في الدنيا ، فغذا خرجوا من دار الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال حسنة يجازون عليها في الآخرة . ولكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد بسنة أخرى وهي قوله تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ..)8 .

    348 ـ من نزلت فيهم آيات توفية أجورهم :
    وقد اختلف المفسرون فيمن نزلت فيهم آيات توفية أجورهم التي ذكرناها في الفقرة السابقة وهي : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ..) الخ على قولين :
    القول الأول : إنها مختصة بالكفار لأن قوله تعالى : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يندرج فيه المؤمن والكافر إذ من الممكن أن يريد المؤمن التمتع بلذات الدنيا والانتفاع بخيراتها وشهواتها ، إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد منها هو الكافر فقط لأن قوله تعالى : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) لا يليق إلا بالكفار .
    القول الثاني : إجراء الآية على ظاهرها في العموم فيندرج فيها المؤمن الذي يأتي بأعمال الخير وبالأعمال الصالحة في ظاهرها وهو يعملها على سبيل السمعة والرياء . ويندرج في عموم الآية أيضاً الكافر الذي يعمل هذه الأعمال لأغراض الدنيا من السمعة والرياء ونحوهما . وعلى هذا القول يكون المراد في قوله تعالى : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ) أي بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونة بالرياء1 .

    349 ـ ما يناله طلاب الدنيا منها :
    إن طلاب الدنيا الذين لا يريدون باعمالهم غيرها لا ينالون منها إلا ما يشاؤه الله تعالى منها . ثم إن هذا الذي يشاؤه الله تعالى منها لا يعطيه جميع طلابها بل لمن يريد الله تعالى إعطاءه قال تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً)2 يخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له ما طلبه وأراده منها وإنما يحصل لمن أراد الله وبالقدر الذي يشاؤه الله له . فهذه الآية مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات الواردة بشأن طلب الدنيا وطلابها وقد أشرنا إلى هذا في الفقرات السابقة . وبناء على هذه الآية صار طلاب الدنيا (منهم) من يتمنى ويطلب الدنيا ولا يعطى إلا بعضاً مما طلب وتمنى. (ومنهم) من يتمنى ويطلب الدنيا ولا يعطى منها شيئاً فيجتمع عليه فقر الدنيا وضياع نعيم الآخرة3 .

    350 ـ سنّة الله في طلاب الآخرة :
    قال تعالى : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً)4 . فهذه الآية الكريمة تبين سنته تعالى في طلب الآخرة وطلابها ، فمن أراد الآخرة أي من كانت همه وقصده ومبتغاه وسعى لها سعيها أي عمل لها عملها من الطاعات وهو مؤمن ـ لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن ـ فهو وأمثاله من المؤمنين العاملين ، كان سعيهم مشكوراً أي مقبولاً عند الله تعالى غير مردود . فالشرط للسعي المشكور أن يقصد به الدار الآخرة وأن يكون صاحبه مؤمناً5 .

    351 ـ زيادة أجر العامل للآخرة :
    قال تعالى : (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه..)6 ، قال الزمخشري في هذه الآية : (من عمل للآخرة وُفِّق في عمله وضوعفت حسناته) . وقال ابن كثير : (أي من أراد عمل الآخرة نزد له في حرثه) أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله تعالى7 .

    352 ـ هل يمكن الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة :
    والجواب : نعم . يمكن ذلك بدليل أن الله تعالى مدح الذين يطلبون خير الدنيا وخير الآخرة ، فلو لم يكن تحصيل الخيرين ممكناً لما أرشدنا الله إلى طلبهما منه تعالى ومدح فاعله وذم من قصر همته على طلب الدنيا فقط ، قال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)1 .
    والمعنى : أن من الناس من يدعو الله تعالى أن يجعل إيتاءه وما يمنحه إياه في الدنيا خاصة للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا فهو يطلب حظوظ الدنيا فقط وماله في الآخرة من نصيب ، ولم يقل إنه يطلب حسنة في الدنيا لأن من كانت الدنيا كل همه فإنه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه فيها حسنة أو سيئة فهو يطلب الدنيا من كل باب ويسلك إليها كل طريق ، وهو باستيلاء الدنيا عليه لم يكن للآخرة موضع في نفسه يطلب من الله تعالى نعيمها ويقيه شرها .
    وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الفريق من الناس ، فقيل الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وقيل هم المسلمون الذين لم تمس حقائق الدين وبشاشة الإيمان قلوبهم فكان همهم مقصوراً على الدنيا لا على الآخرة2 .

    353 ـ تفسير آية الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة :
    الآية هي : (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) . وقوله تعالى : (وِمِنْهُم) أي من الناس وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة . واختلفوا في المقصود بالحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة ، قال قتادة : حسنة الدنيا تعني العاقبة في الصحة وكفاف المال . وقال غيره الصحة والكفاف في العيش والتوفيق للخير في الدنيا والثواب في الآخرة . وقال الحسن : حسنة الدنيا العلم والعبادة . والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين : نعيم الدنيا والآخرة ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كلّه فإن كلمة (حَسَنَةً) نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات . وحسنة الآخرة الجنة بالإجماع3 . وقوله تعالى : (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي نجنا منها . وهذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت خيري الدنيا والآخرة .
    وفي الصحيحين عن أنس قال : كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الىخرة حسنة وقنا عذاب النار)4 .
    يتبع


    354 ـ ما يشترط للجمع بين إرادة الدنيا والآخرة :
    ويشترط للجمع بين إرادة الدنيا والآخرة حصول النية أي أن يقصد طالب الدنيا جعلها بعد الحصول عليها وسيلة للظفر بالآخرة . وهذه النية لا تكلفه شيئاً لأنها عمل القلب واتجاهه ، ولكنها مهمة جداً ولا يصلح العمل بدونها لأن الأصل في الإسلام : (إنما الأعمال بالنيّات) فالنيّة هي التي تلون العمل وتعطيه صفة من الحلّ أو الحرمة والقبول أو الرفض والثواب أو عدمه . فهو بهذه النية يجعل عمله المباح لنيل المال أو غيره من نعم الدنيا عملاً مأجوراً عليه وقربة من القربات . فإذا ظفر بمراده من الدنيا وهو بهذه النية لزمه استحضار نية الآخرة أي إرادته لها في استعمال ما حصل عليه من الدنيا .

    355 ـ التطبيق العملي للجمع بين إرادة الدنيا والآخرة :
    قلنا إن الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة ممكن ، أما كيفية التطبيق العملي لهذا الجمع فقد أرشدتنا إليه الآيات الكريمة الواردة في قصة قارون وما جرى بينه وبين قومه من حوار وجدال ، ومن ذلك ما حكاه الله تعالى من قول الناصحين له من قومه ، قال تعالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)5 . فالمسلم يستطيع أن يسعى لتحصيل نعم الدنيا بالوسائل المشروعة فهذا مباح له غير محظور عليه ، وله أن يدعو الله لتمكينه من الحصول على مطلوبه من نعم الدنيا كما أشرنا من قبل . فإذا حصل على مراده من الدنيا فعليه أن يستعمل ما يؤتيه الله تعالى من مال وغيره فيما ينفعه في الآخرة كالتصدق في سبيل الله وأداء ما أوجبه الله عليه فيما أنعم به عليه . أي أن يؤدي شكر الله تعالى على نعمه عليه ، وأن يحسن إلى خلق الله كما أحسن الله عليه . وله أن يتمتع بما أباحه الله له من الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب وغيرها وبهذا يتحقق منه التطبيق العملي للجمع بين إرادة الدنيا والآخرة . وبما قلناه صرح المفسرون أو أشاروا إليه أو دلّ كلامهم عليه في تفسيرهم للآيات التي ذكرناها في قصة قارون ، فمن أقوالهم ما يأتي :

    356 ـ أولاً : أقوال المفسرين في قوله تعالى : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة)
    أ ـ قال القرطبي : أي اطلب فيما آتاك الله من الغنى والثروة الدار الآخرة بأن تعمل فيه أفعال الخير من التصديق الواجب والمندوب إليه وتجعله زادك في الآخرة1 .
    ب ـ قال الزمخشري : أي وابتغ فيما آتاك الله من الغنى والثروة الدار الآخرة بأن تعمل فيه أفعال الخير من التصدق الواجب والمندوب إليه وتجعله زادك في الآخرة2 .
    ج ـ وقال الرازي : المراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة3 .
    د ـ وقال ابن كثير : أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الكاملة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة4 .

    357 ـ ثانياً : أقوال المفسرين في قوله تعالى : (ولا تنسَ نصيبك من الدنيا)
    أ ـ قال الرازي : أي لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة5 .
    ب ـ قال القرطبي : وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعلقبة دنياك6 .
    ج ـ قال الزمخشري : أي أن تأخذ منها ما يكفيك ويصلحك7 .
    د ـ قال الآلوسي : أي لا تنس حظك من الدنيا . وعن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك . وعن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحله الله تعالى لك8 .
    ه ـ قال ابن كثير : أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والمساكن والمناكح ، فيجوز لك أن تتمتع به ، فإن لربك عليك حقاً وانفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً ، فآت كل ذي حق حقه9 .

    358 ـ ثالثاً : أقوال المفسرين في قوله تعالى : (وأحسن كما أحسن الله إليك)
    أ ـ قال الرازي : ويدخل في معنى الآية الإعانة للفقير بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر10 .
    ب ـ قال الزمخشري : وأحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك11 .
    ج ـ وقال الآلوسي : وأحسن إلى عباد الله عزّ وجل كما أحسن الله إليك فيما أنعم به عليك12 .
    د ـ وقال ابن كثير : أي أحسن إلى خلقه كما هو أحسن إليك13 .





    الفصل السادس عشر
    سنّة الله في رزق العباد
    [قانون الرزق]
    359 ـ معنى الرزق :
    أ ـ جاء في لسان العرب1 الرَّزق بفتح الراء هو المصدر الحقيقي للفعل رَزَقَ . وبكسر الراء الرِّزق ما ينتفع به والجمع أرزاق .
    والرِزق : العطاء . وقد يسمى المطر رزقاً وذلك قوله تعالى : (وما أنزل من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) . والأرزاق نوعان : ظاهرة للأبدان كالأقوات ، وباطنة كالمعارف والعلوم .
    ب ـ وجاء في المعجم الوسيط2 : (الرزق) بفتح الراء المصدر . وبكسر الراء اسم الشيء المرزوق وهو كل ما يُنتفع به. والرِزق ما ينتفع به مما يؤكل ويلبس . والرزق ما يصل إلى الجوف ويُتغذى به . وفي التنزيل العزيز : (فليأتكم برزق منه) والرزق : المطر ، لأنه سبب الرزق . والرزق : العطاء ، والعطاء الجاري يقال : كم رزقك في الشهر؟ أي كم راتبك، والجمع أرزاق .
    ج ـ وفي النهاية لابن الأثير3 : من أسماء الله تعالى ((الرزّاق)) وهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم . والأرزاق نوعان : ظاهرة للأبدان كالأقوات وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم .
    د ـ وفي المفردات للراغب4 : الرزق ، يقال للعطاء الجاري تارة دنيوياً كان أم أخروياً ، وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة . يقال أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علماً . وقوله تعالى : (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) أي من المال والجاه والعلم . وقوله تعالى : (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أي وتجعلون نصيبكم من النعمة تحري الكذب . وفي العطاء الأخروي قوله تعالى : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) . والرازق يقال لخالق الرزق ومعطيه والمسبب له وهو الله تعالى . ويقال ذلك للإنسان الذي يصير سبباً في وصول الرزق . والرزاق لا يقال إلا لله تعالى . وقوله تعالى : (وجعلنا فيها معايش ومن لستم له برازقين) أي بسبب في رزقه ولا مدخل لكم فيه . ويقال ارتزق الجند : أخذوا أرزاقهم . والرزقة ما يُعطونه دفعة واحدة .

    360 ـ المعنى المراد من الرزق في بحثنا :
    والمعنى الذي نريده من كلمة ((الرزق)) في بحثنا كل مال ينتفع به سواء كان مادياً كالأموال من ذهب وفضة وحيوان وزروع وثمار وعقار ، ومأكول وملبوس ومشروب ومسكون ونحو ذلك . أو كان معنوياً كالمعارف والعلوم والمنزلة والجاه والسلطان والعقل والذكاء وحسن الخلق ونحو ذلك . وسواء كان ما ينتفع به في الدنيا وهو ما ذكرناه أو ينتفع به في الآخرة وهو رضوان الله تعالى وثوابه ونعيم الجنة ونحو ذلك مما أخبرنا الله تعالى به .

    361 ـ الله هو الرزاق ذو القوة المتين :
    الله تعالى هو خالق الرزق ومعطيه والمسبب له ، ومن أسمائه تعالى ((الرزاق)) فهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم5 . وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين أن الله تعالى هو الرزاق بالمعنى الذي ذكرناه ، فمن ذلك :

    362 ـ آيات في كونه هو الرزاق :
    أ ـ قال تعالى : (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)6 . والدابّة اسم لكل حيوان ، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب ، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى . والمراد بهذا اللفظ ((دابّة)) في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات ، وهذا متفق عليه بين المفسرين . ومعنى الآية : ما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه ، وإن ذلك كالواجب عليه تعالى بحسب وعده تعالى بإيصال الرزق إلى كل ذي روح تفضلاً منه وإحسان . والله يعلم مستقرها ، أي مكانها في الأرض ومسكنها ويعلم مستودعها حيث كانت مودعة قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة7 .
    ب ـ وقال تعالى (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)8 . والمعنى : وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره ، وإنما تصبح ولا شيء عندها ، فالله تعالى يرزقها وإياكم ، فلا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله تعالى ولا يرزقكم أيضاً أيها الناس إلا الله تعالى وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل رزقها . فالله تعالى رزق الكل بأسباب هو تعالى المسبب لها وحده1 .
    ج ـ وقال تعالى : (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)2 . فالله تعالى هو الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره وهو القوي القادر البليغ الاقتدار على كل شيء3 .

    363 ـ فابتغوا عند الله الرزق :
    وإذا كان الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ، فعلى المسلم أن يطلب الرزق منه لا من غيره ، قال تعالى : (ند الله الرزق)4 . وعلى هذا فينبغي للمسلم أن يتوكل على ربه عز وجل في تحصيل رزقه ويدعوه أن ييسر له أسبابها ويباشرها فعلاً ويعينه عليها .

    364 ـ سنّة الله في رزق عباده :
    جبل سبحانه وتعالى الحيوانات على مباشرة أسباب اكتساب رزقها بالتحرك والانتقال من مكان إلى آخر وزودها بغرائز معينة وأعضاء في بدنها تعينها على تحصيل رزقها . وسنَّته تعالى في رزق عباده أنه تعالى جعل هذا الرزق يصلهم بأسباب يباشرونها باختيارهم وجعلها الله تعالى موصلة إلى اكتساب الرزق ، ويسَّر لهم هذه الأسباب ودعاهم بل وأمرهم بالسعي إلى كسب الرزق .

    365 ـ السعي لكسب الرزق :
    قلنا إن سنة الله في رزق عباده إيصال هذا الرزق لهم بمباشرة أسباب اكتسابه ودعاهم إلى مباشرة هذه الأسباب ومنها التنقل في أنحاء الأرض قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)5 . والمعنى : سافروا وتنقلوا حيث شئتم في أنحاء الأرض وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات ، فقد جعل الله الأرض ذلولاً غير صعبة يسهل جداً عليكم السلوك فيها (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) . أي انتفعوا بما أنعم الله عليكم . وقد استدل بهذه الآية على استحباب التسبب في اكتساب الرزق ، وفي الحديث النبوي الشريف : إن الله يحب العبد المؤمن المحترف6 .

    366 ـ الاحتطاب ولا سؤال الناس :
    وإذا كان السعي لاكتساب الرزق هو السبيل المعتاد لوصول الرزق إلى الإنسان وإن العمل وإن كان شاقاً كالاحتطاب فهو خير من أن يسأل المسلم الناس الصدقة ما دام قادراً على الكسب ، جاء في حديث البخاري عن الزبير بن العوام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)7 . قال ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث : في الحديث الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولوامتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك8 .

    367 ـ السعي لاكتساب الرزق لا ينافي التوكل :
    والسعي لاكتساب الرزق ومباشرة أسبابه لا ينافي التوكل فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث في تفسيره : قال الحكيم الترمذي : مرَّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بقوم فقال لهم : من انتم؟ فقالوا : المتوكلون . قال أنتم المتأكلون . إنما المتوكل رجل ألقى حبه ـ أي بذره ـ في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل9 . وسئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال : لا أعمل شيئاً ويأتيني رزقي . فقال هذا رجل جهل العلم فقد قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله جعل رزقي تحت رمحي)1 .

    368 ـ كسب المال الحلال بمنزلة الجهاد :
    قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاة

      الوقت/التاريخ الآن هو 11/22/2024, 08:46