تاب كتاب السنن الالهيه2
211 ـ رابعاً : معاداة المؤمنين مجلبة للخذلان والدمار :
قال تعالى : (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ)6 . والمعنى أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخلوا في الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم ، وإن عادوا إلى معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداة المؤمنين على معنى إن داوموا عليها فقد مضت سنة الله أي عادة الله سبحانه وتعالى الجارية ف الذين تحزبوا على الأنبياء وأتباعهم المؤمنين أن تجري هذه السنة على هؤلاء المعادين للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين بأن ينصر الله المؤمنين عليهم ويخذلهم ويدمرهم7 .
212 ـ خامساً : عاقبة الظلم تصيب كل ظالم :
قال تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌوَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)8 .
والمعنى أن تلك القرى ، بقي من بعضها شيء ، وبعضها هلك وما بقي منه أثر البتة ثم قال تعالى : وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية . (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي إن عذاب الله ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك . وقوله تعالى : (وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي أهل تلك القرى .
وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية غير مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) فينبغي أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي مما يصدق عليه وصف ((الظلم)) فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد1 .
213 ـ سادساً : من يُسخط الله يصبه عقابه :
قال تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)2 ، قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي أسخطونا . وقوله تعالى : (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون فيهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم3 .
214 ـ سابعاً : ينزل العقاب على مستحقيه مهما كانت قوتهم :
أ ـ قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)4 . فالعقاب ينزل على المتساوين في استحقاقه وإن اختلفت مراكزهم في القوة والسلطان لأن القوي أمام الله ضعيف مهما كانت قوته فينزل عليه العذاب الذي يستحقه . فإذا رأى الظالم المتمرد على الله أن الله أهلك من هو أقوى منه وأكثر أتباعاً وأوسع سلطاناً كان ذلك أدعى له إلى العبرة والاتعاظ . فقوم (تُبّع) كانوا كافرين ولهم قوة ومنعة ومع هذا أهلكهم الله تعالى لكونهم عتاة مجرمين متمردين على شرع الله ، فليحذر كفار قريش وغيرهم من الكفرة الإهلاك بسبب كفرهم كما أهلك من قبلهم
ـ أي قوم تبع ـ مع أنهم كانوا أكثر من قريش قوة ومنعة وسلطاناً5 .
ب ـ وقال تعالى : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)6 ، أي فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد فجعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم أي ما أصاب من سبقهم من المكذبين7 .
ج ـ وقال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ)8 ، وقال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ)9 ، أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ، لماذا أهلكوا وكانوا أكثر منكم قوة فكيف تضمنون أنتم أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم . ولقد أهلكنا أمثالكم في الكفر من الأمم السابقة فهل من معتبر
بذلك؟10 .
215 ـ عاقبة الكفار واحدة :
قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)11 . دمّر الله عليهم أي أهلكهم ، ثم تواعد وهدد وحذر مشركي مكة فقال تعالى : (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي لهم أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا12 .
216 ـ جزاء المجرمين والجاحدين كجزاء أمثالهم السابقين :
أ ـ قال تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)13 أي ألم نهلك الأولين من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوا به من ربهم ثم نتبعهم الآخرين ، أي ثم نفعل بأمثالهم من المجرمين اللاحقين مثل ما فعلناه بالمجرمين الأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم (كذلك) أي مثل ذلك الفعل الشنيع وهو الإهلاك نفعل بكل من أجرم14 .
ب ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون)1 .
والمعنى : لقد أعطينا الأمم السابقة من الأموال والأولاد والقوة ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه ، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فلم تغنِ عنهم من شيء لأنهم جحدوا بآيات الله فأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، فاحذروا أيها المخاطبون ـ يا كفار قريش ـ أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة2 . وهذا تحذير لكل جاحد لآيات الله تعالى .
ج ـ وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ)3 . والمعنى : لقد أوقعنا (المثلات) أي العقوبات بأمثالهم من المكذبين من الأمم الخالية أي السالفة ، وجعلناهم وما نزل بهم من العقوبات عبرة وعظة لمن اتعظ بهم ، فما لهم لم يعتبروا بذلك؟4 .
217 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر :
أ ـ قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)5 أي أنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ، فكيف تظنون ذلك6 . وفي تفسير القرطبي : قال ابن عباس ، قال كفار مكة : إنا نُعطى في الآخرة خيراً مما يُعطى المسلمون ، فنزلت الآية ثم وبَّخهم فقال تعالى : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم7 .
ب ـ وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)8 . والمعنى أن الله تعالى قد نفى المساواة بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار فلا تساوي بينهم في الىخرة ولا مساواة أيضاً بينهم في الدنيا9 .
ج ـ وقال تعالى : (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)10 . قال ابن كثير : (أي لا يستوي المؤمنون والكافرون ، وساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار ، ساء ما يحكمون)11 . أي ساء حكمهم هذا وهو حكمهم بالتساوي فيما بين المؤمنين والكافرين12 . ومن مظاهر عدم التساوي بينهم في الدنيا ، أن الله تعالى هو ولي المؤمن في الدنيا ، وأنصاره هم المؤمنين ، وعند الموت تبشره الملائكة بحسن العاقبة وبرحمة الله ورضوانه . أما الكافر فبالضد من ذلك يعيش كافراً ويكون الشيطان وليه ، وعند الموت يموت على اليأس من رحمة الله ، وعلى الكفر به13 .
218 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر وإن عمل خيراً :
الكافر لا يساوي المؤمن وإن عمل الكافر خيراً أي أعمالاً حسنة بذاتها أو نافعة للناس ، لأن هذه الأعمال لا تقوى على محو جريمة كفره وتمرده على الله فلا يمكن أن يساوي المؤمن الذي عنده الإيمان بالله وإن لم يتيسر أن يعمل خيراً كثيراً . فيبقى المؤمن ومعه حسنة الإيمان أرجح دائماً من الكافر وإن عمل شيئاً حسناً ما دام بقي كافراً ، فلا مساواة أبداً وفي جميع الأحوال بين المؤمن والكافر قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)14 . قال ابن كثير: إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمّاره ، فميز الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم على قيام المشركين بعمارة البيت وقيامهم بالسقاية ولم يكن ينفعهم ذلك عند الله تعالى مع شركهم به وإن كانوا يعمرون بيته قال تعالى : (لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسمّاهم الله ظالمين بشركهم فلم تغنِ عنهم عمارة البيت شيئاً1 .
219 ـ التفاضل بين أعمال البرّ :
أعمال البرّ في الإسلام غير متساوية في المنزلة ولا في الثواب عند الله تعالى فبعضها أفضل من بعض ، وينبغي لذلك أن يكون الاهتمام بالأهم والأرجح والأفضل والأحب لله تعالى والاعلى منزلة عنده . وعلى هذا فعند التزاحم وتعذر عمل الاثنين أن يقدم الأفضل على المفضول والراجح على المرجوح والأهم على المهم والأحب على المحبوب . وهذا في أعمال البر غير الواجبة ، أما في عمل الواجب في حق المسلم والقادر على فعله فهذا يلزم فعله ولا يزاحمه عمل برّ مندوب ، لأن ما هو واجب مقدم على ما ليس بواجب دائماً .
وقد دلّ على ما قلته أي على التفاضل في أعمال البرّ الآية التي ذكرناها وهي (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ..) الخ فقد جاء في تفسيرها وجه آخر غير الذي ذكرناه ، فقد قال الرازي في تفسيرها : يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين كما يحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين . أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين كما يحتمل انها جرت بين المسلمين والكافرين . قالوا إنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين : (أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ) ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله تعالى وذلك لا يليق إلا بالمؤمنين2 .
220 ـ من أدلة التفاضل بين الأعمال :
ومما يدل أيضاً على التفاضل بين الأعمال حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال : إيمان بالله ورسوله . قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل ثم ماذا؟ قال الحج المبرور3 . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة : أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان4 .
221 ـ التفاضل بين المؤمنين بتفاضل أعمالهم :
المؤمنين غير متساوين في الدرجة عند الله تعالى لتفاضلهم في أعمال البر التي يعملونها قال تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)5 . والمعنى لا يستوي من أنفق قبل فتح مكة وقاتل ومن أنفق بعد هذا الفتح وقاتل ، فأولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح . وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات6 .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . قالوا ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره7 .
يتبع
196 ـ مفهوم المعصية التي لا يطاع فيها الأمير :
والمعصية التي لا يطاع فيها الأمير إذا أمر بها هي التي عليها دليل شرعي واضح صريح لا يتحمل التفسير بأكثر من وجه ولا الاجتهاد في مدلوله كدخول النار التي أمر أمير السرية أتباعه بدخولها ، لأن الدخول في النار قتل للنفس ، وقتل النفس لا يجوز قطعاً . أما في الأمور الاجتهادية فطاعته فيها واجبة إذ لا معصية في اختيار الأمير رأياً دون رأي فيما يجوز الاجتهاد فيه .
197 ـ أخذ الأمير بالشورى من موانع الخلاف :
ومن موانع الخلاف في الجماعة أخذ الأمير بالشورى ، وهذا واجب عليه لأن الشورى من مبادىء الإسلام وصفات المؤمنين وخاطب به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : (وأمرهم شورى بينهم) وقال تعالى : (وشاورهم في الأمر) والمخاطب بهذا الأمر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي ليعلم المسلمون أنهم ملزمون بالشورى وأن على حكام المسلمين وولاة الأمور أن يفعلوا ذلك وإن تركوا الشورى استحقوا العزل ، قال الإمام القرطبي : (قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب)1 فيجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورة مجلس الشورى فيها ، فيشاوره في أمور الدعوة والجماعة قبل أن يتخذ الرأي الذي يأمر به الجماعة .
198 ـ هل الشورى ملزمة للأمير أو معلمة؟
وإذا كان الواجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورته لمجلس الشورى فيها ، فهل يجب عليه الأخذ برأي المجلس المتفق عليه من قبل أعضائه أو برأي أكثرية أعضائه ، فيقال للشورى في هذه الحالة أنها ((ملزمة)) أو لا يجب عليه ذلك فله أن يأخذ برأي المجلس وله أن يرفض ولو كان باتفاقهم ويأخذ برأي نفسه فيقال للشورى في هذه الحالة إنها ((معلمة)) فقط وليست ((ملزمة))؟
والجواب يتوقف على نظام الجماعة ، فما يقرره نظامها من كون الشورى في الجماعة ملزمة لأميرها أو معلمة فقط يكون هو الواجب التنفيذ في حق الأمير وفي حق الجماعة كلها . وليس من بحثنا هنا بيان أي الاعتبارين أرجح : اعتبار الشورى ملزمة أو اعتبارها معلمة فقط . وكل كا نقوله هنا أن المسألة اجتهادية ويتوقف الترجيح على طبيعة ظروف الجماعة وأحوالها من حيث ومن حيث المكان والزمان وما يحيط بها من أوضاع وظروف معينة ومن حيث طبيعة أعضائها من جهة قلتهم وكثرتهم ودينهم وورعهم وعلمهم ومن حيث طبيعة المختارين للإمارة من حيث مدى تقواهم وعلمهم ودرايتهم إلى غير ذلك من الأمور التي ليس هنا محل بسطها والكلام فيها .
199 ـ نتيجةالأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف :
والأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف والتي ذكرنا منها اختيار الأمير من قبل الجماعة وأخذه بالشورى في إدارته أعمال الجماعة على النحو الذي بيناه ، فالأخذ بهذه الوقاية سيجعل الجماعة ـ إن شاء الله تعالى ـ بعيدة عن الاختلاف المذموم الذي يفرقها ويوقع الخصام فيها ، وإن وقع الخلاف أمكن معالجته وحسمه وسدّ المنافذ في وجوه المخالفين سيِّئي النية الذين يتوكؤون عادة لتبرير خلافهم وتمردهم على الاحتجاج بمصلحة الدعوة ، ومصلحة الدعوة لا تكون بالخروج على نظام الجماعة ، وإنما تكون بالتقيد والالتزام بهذا النظام وإعطاء الأمير ما أوجبه الشرع له من حق الطاعة بالعروف بعد قيامه بالمشاورة المطلوبة منه .
الفصل السابع
سنّة الله في المتساوين والمختلفين
[قانون التماثل والأضداد]
200 ـ المقصود بالمتساوين والمختلفين :
نريد بالمتساوين في بحثنا هذا : المتشابهين أو المتماثلين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
ونريد بالمختلفين : الأضداد أي المختلفين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
وهذا المعنى الذي نقصده في المتساوين والمختلفين ينسحب على الأفراد والأمم والجماعات ، وعلى الأفعال والتصرفات وعلى كل ما يترتب عليه حكم أو نتيجة أو جزاء معين في الدنيا والآخرة .
201 ـ التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام :
والسنة العامة في التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام أن المتساوين والمختلفين بالمعنى الذي بيناه يتساوون أو يختلفون في النتائج والاحكام في الدنيا والآخرة لتساويهم أو اختلافهم في المعاني والأوصاف التي نبطت بها هذه النتائج والأحكام أو استوجبتها .
202 ـ قول ابن تيمية في المتماثلين والمختلفين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وهو سبحانه وتعالى كما يفرق بين الأمور المختلفة ، فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة فيحكم في الشيء خلقاً وأمراً بحكم مثله ، فلا يفرق بين المتماثلين ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين ، بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسوِّ بينهما . وقد بيّن سبحانه وتعالى أن (السنّة) لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع . والسنّة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره ، ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار فقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) .
والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه ، فإذا قال تعالى : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، وقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ليحذر السامع أن يعمل مثل أعمال الكفار وليرغّب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء ، قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فالله تعالى أخبر أن سنته لن تتبدل ولن تتحول . وسنته تعالى عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي أي الذي وقع قبله ، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ، ولهذا قال تعالى : (أكفاركم خير من أولئكم) وقال تعالى : (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) ، أي أشباههم ونظراءهم . وقال تعالى : (وإذا النفوس زوجت) ، أي قرن النظير بنظيره . وقال تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) فجعل تعالى التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة1 .
203 ـ الأدلةعلى قانون التماثل والأضاد :
الدليل الأول ـ التأمل في أحوال المكذبين :
قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) . أي انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين ، فإذا سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبيل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم ، أي هلاككم كما هلكوا . وهذا بيان من الله تعالى لجميع الناس ليهتدوا به وليعرفوا سنته . ومن سنته تعالى أن لسير الناس في الحياة سنناً يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها يؤدي إلى الهلاك والشقاوة وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى ما توصل إليه تلك السنن . والذي ينتفع بهذا البيان هم المتقون الذين يهتدون به ويتعظون بما يقصه الله عليهم من أحوال السابقين وما يبينه لهم ما حلّ فيهم بسبب تكذيبهم رسلهم ورفضهم هدى الله تعالى2 .
204 ـ الدليل الثاني : الاعتبار بإهلاك الكافر الأقوى :
قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)3 ، والقرن الأمة من الناس . وقيل أهل قرن ، والقرن على هذا المعنى مدة من الزمان قيل مئة سنة وعليه أكثر أهل الحديث والمعنى : ألم يروا إلى مصارع الأجيال السابقة وقد مكنهم الله تعالى في الأرض وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان والنعم الفيرة ما لم يعط مثله للمخاطبين من كفار قريش ثم لم تكن تلك المواهب والنعم والقوة والسلطان بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بتكذيبهم رسل الله تعالى ، وأنشأنا من بعدهم جيلاً آخر لنختبرهم فعملوا مثل أعمال من سبقهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون ـ أي كفار قريش ـ أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز على الله تعالى منهم4 .
205 ـ الدليل الثالث : لا يستوي الخبيث والطيب :
قال تعالى : (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)1 ، في هذه الآية الكريمة حكم عام على نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين : الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال والفاسد والصالح والحلال والحرام ولا يستوي الخبيث والطيب من الناس كالظالم والعادل والمفسد والمصلح والبرّ والفاجر والمؤمن والكافر ، فلكل من الخبيث والطيب مما ذكرناه حكم يليق به ويناسبه ، فالمساواة منتفية بين النوعين : الخبيث والطيب (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها كأكل الربا والرشوة فلا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك ، فالعبرة بصفة الشيء وما هو عليه من خبث أو طيب . فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ولا بكثرة أهل الباطل والفساد الخبيثين ، فإن تقوى الله هي التي تجعلكم في زمرة الطيبين الفائزين في الدنيا والآخرة2 .
206 ـ المتساوون في موجبات العقاب يعاقبون :
موجبات العقاب من تكذيب الرسل أو عصيان شرع الله أو ظلم عباد الله أو الكفر بنعم الله وغير ذلك إذا تلبس بها قوم أو فئة أو شخص استوجبوا عقاب الله في الدنيا والآخرة . ومن عقابهم في الدنيا هلاكهم أو إصابتهم بالذل والهوان وضيق العيش وزوال الأمن منهم والاطمئنان وغير ذلك . وبهذا مضت سنة الله في الأولين وتجري في الحاضرين واللاحقين ، والأمثلة على ذلك نذكر بعضها مما قصه الله علينا للعبرة والاتعاظ .
207 ـ أولاً : من يبدل نعمة الله فإن الله شديد العقاب :
قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)3 .
قال الإمام القرطبي : قوله تعالى : (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ) لفظ عام لجميع الناس ، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله4 ، أي فيصيب كل مبدل نعمة الله العقاب الذي يستحقه . ولم يقل فإن الله يعاقبهم وإنما قال : (فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ليشعرنا بأن هذا من سنته العامة التي تجري على المبدلين لنعمة الله في الحاضر والمستقبل كما جرت على المبدلين السابقين في الزمن الماضي5.
208 ـ المقصود بنعمة الله وتبديلها :
والمقصود بنعمة الله التي يستوجب تبديلها عقاب الله هي نعمة الإسلام والإيمان وما أنزله الله تعالى من الآيات البيِّنات الدالة على دينه الحق الإسلام .
وتبديل هذه النعمة يعني عدم التصديق بها أو عدم الاهتداء بها وعدم القيام بما تستوجبه من طاعة الله باتباع شرعه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم . وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة ، وما حلَّ بالمسلمين من شقاء وضيق وعيش تعيس فسببه تبديلهم نعمة الله عليهم بنقيض ما تقتضيه من الشكر لله تعالى والعمل بشريعته6 .
209 ـ ثانياً : من يخالف بعض شرع الله يعاقبه الله :
قال تعالى مخاطباً اليهود : (ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)7 .
والمعنى أن الله تعالى أخذ العهود على اليهود أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرجوهم من ديارهم ولا يظاهرون عليهم في ذلك ، وأن يفادوا أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله تعالى على ذلك توبيخاً يُتلى فقال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي تأخذون الفداء وتتركون البعض الآخر من التوراة وهو النهي عن القتل والإخراج من ديارهم (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين وعصيانه وعدم الإيمان به كله ، والعقاب هو الخزي العاجل الذي يصيبهم في الدنيا والعذاب الآجل في الآخرة . وقد شهدت الوقائع التاريخية بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها واعتدت حدود شريعتها إلا تفرق شملها ونزل بها الذل والهوان وهو بعض الخزي في الدنيا وهذه هي سنّة الله التي يجب أن يحصل بها الاعتبار ولا يغفل عنها المسلمون1 .
وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر نقض العهود وميثاق الله عليهم قال رحمه الله تعالى : (ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع فتضافر بعضنا على بعض ليت بالمسلمين بل بالكافرين حتى إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)2 ، وما ذكره الإمام القرطبي هو بعض ما فعله المسلمون بعد عصره وفي عصرنا الحاضر فحلَّ بهم ما حذر الله منه اليهود لأن من سنة الله تساوي المتساوين في موجبات العقاب بالعقاب الذي حذر منه .
210 ـ ثالثاً : عقاب الاحتيال على شرع الله :
وعقاب الاحتيال على شرع الله لتعطيله وعدم العمل به ، هذا العقاب يصيب كل محتال على شرع الله تعالى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)3 .
الآية الكريمة تشير إلى اعتداء اليهود بما فعلوه من احتيال على اصطياد الحيتان يوم السبت وكانوا ممنوعين منه فظنوا أنهم باحتيالهم ينجون من العقاب فعاقبهم الله تعالى بعقوبة جعلها الله (نكالاً) أي عبرة لغيرهم لأن النكال هو ما يُفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر به غيره . (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) ، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من الناس من العقاب فيمقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم4 .
وفي تفسير القرطبي : (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) الوعظ يعني التخويف .
قال ابن عطية : اللفظ عام ، يعم كل متقٍ من كل أمة . وقال الزجاج : (وموعظة للمتقين) لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا ما نهاهم الله عنه فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت لما انتهكوا ما نهاهم الله عنه5 .
يتبع
والمعصية التي لا يطاع فيها الأمير إذا أمر بها هي التي عليها دليل شرعي واضح صريح لا يتحمل التفسير بأكثر من وجه ولا الاجتهاد في مدلوله كدخول النار التي أمر أمير السرية أتباعه بدخولها ، لأن الدخول في النار قتل للنفس ، وقتل النفس لا يجوز قطعاً . أما في الأمور الاجتهادية فطاعته فيها واجبة إذ لا معصية في اختيار الأمير رأياً دون رأي فيما يجوز الاجتهاد فيه .
197 ـ أخذ الأمير بالشورى من موانع الخلاف :
ومن موانع الخلاف في الجماعة أخذ الأمير بالشورى ، وهذا واجب عليه لأن الشورى من مبادىء الإسلام وصفات المؤمنين وخاطب به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : (وأمرهم شورى بينهم) وقال تعالى : (وشاورهم في الأمر) والمخاطب بهذا الأمر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي ليعلم المسلمون أنهم ملزمون بالشورى وأن على حكام المسلمين وولاة الأمور أن يفعلوا ذلك وإن تركوا الشورى استحقوا العزل ، قال الإمام القرطبي : (قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب)1 فيجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورة مجلس الشورى فيها ، فيشاوره في أمور الدعوة والجماعة قبل أن يتخذ الرأي الذي يأمر به الجماعة .
198 ـ هل الشورى ملزمة للأمير أو معلمة؟
وإذا كان الواجب على أمير الجماعة المسلمة أن يشاور الجماعة عن طريق مشاورته لمجلس الشورى فيها ، فهل يجب عليه الأخذ برأي المجلس المتفق عليه من قبل أعضائه أو برأي أكثرية أعضائه ، فيقال للشورى في هذه الحالة أنها ((ملزمة)) أو لا يجب عليه ذلك فله أن يأخذ برأي المجلس وله أن يرفض ولو كان باتفاقهم ويأخذ برأي نفسه فيقال للشورى في هذه الحالة إنها ((معلمة)) فقط وليست ((ملزمة))؟
والجواب يتوقف على نظام الجماعة ، فما يقرره نظامها من كون الشورى في الجماعة ملزمة لأميرها أو معلمة فقط يكون هو الواجب التنفيذ في حق الأمير وفي حق الجماعة كلها . وليس من بحثنا هنا بيان أي الاعتبارين أرجح : اعتبار الشورى ملزمة أو اعتبارها معلمة فقط . وكل كا نقوله هنا أن المسألة اجتهادية ويتوقف الترجيح على طبيعة ظروف الجماعة وأحوالها من حيث ومن حيث المكان والزمان وما يحيط بها من أوضاع وظروف معينة ومن حيث طبيعة أعضائها من جهة قلتهم وكثرتهم ودينهم وورعهم وعلمهم ومن حيث طبيعة المختارين للإمارة من حيث مدى تقواهم وعلمهم ودرايتهم إلى غير ذلك من الأمور التي ليس هنا محل بسطها والكلام فيها .
199 ـ نتيجةالأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف :
والأخذ بوسائل الوقاية من الخلاف والتي ذكرنا منها اختيار الأمير من قبل الجماعة وأخذه بالشورى في إدارته أعمال الجماعة على النحو الذي بيناه ، فالأخذ بهذه الوقاية سيجعل الجماعة ـ إن شاء الله تعالى ـ بعيدة عن الاختلاف المذموم الذي يفرقها ويوقع الخصام فيها ، وإن وقع الخلاف أمكن معالجته وحسمه وسدّ المنافذ في وجوه المخالفين سيِّئي النية الذين يتوكؤون عادة لتبرير خلافهم وتمردهم على الاحتجاج بمصلحة الدعوة ، ومصلحة الدعوة لا تكون بالخروج على نظام الجماعة ، وإنما تكون بالتقيد والالتزام بهذا النظام وإعطاء الأمير ما أوجبه الشرع له من حق الطاعة بالعروف بعد قيامه بالمشاورة المطلوبة منه .
الفصل السابع
سنّة الله في المتساوين والمختلفين
[قانون التماثل والأضداد]
200 ـ المقصود بالمتساوين والمختلفين :
نريد بالمتساوين في بحثنا هذا : المتشابهين أو المتماثلين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
ونريد بالمختلفين : الأضداد أي المختلفين في المعاني والأوصاف التي هي مناط الأحكام أو التي تستوجب نتائج معينة حسب سنن الله العامة .
وهذا المعنى الذي نقصده في المتساوين والمختلفين ينسحب على الأفراد والأمم والجماعات ، وعلى الأفعال والتصرفات وعلى كل ما يترتب عليه حكم أو نتيجة أو جزاء معين في الدنيا والآخرة .
201 ـ التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام :
والسنة العامة في التساوي والاختلاف في النتائج والأحكام أن المتساوين والمختلفين بالمعنى الذي بيناه يتساوون أو يختلفون في النتائج والاحكام في الدنيا والآخرة لتساويهم أو اختلافهم في المعاني والأوصاف التي نبطت بها هذه النتائج والأحكام أو استوجبتها .
202 ـ قول ابن تيمية في المتماثلين والمختلفين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وهو سبحانه وتعالى كما يفرق بين الأمور المختلفة ، فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة فيحكم في الشيء خلقاً وأمراً بحكم مثله ، فلا يفرق بين المتماثلين ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين ، بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسوِّ بينهما . وقد بيّن سبحانه وتعالى أن (السنّة) لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع . والسنّة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره ، ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار فقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) .
والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه ، فإذا قال تعالى : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، وقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ليحذر السامع أن يعمل مثل أعمال الكفار وليرغّب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء ، قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فالله تعالى أخبر أن سنته لن تتبدل ولن تتحول . وسنته تعالى عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي أي الذي وقع قبله ، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ، ولهذا قال تعالى : (أكفاركم خير من أولئكم) وقال تعالى : (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) ، أي أشباههم ونظراءهم . وقال تعالى : (وإذا النفوس زوجت) ، أي قرن النظير بنظيره . وقال تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) فجعل تعالى التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة1 .
203 ـ الأدلةعلى قانون التماثل والأضاد :
الدليل الأول ـ التأمل في أحوال المكذبين :
قال تعالى : (لقد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) . أي انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين ، فإذا سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبيل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم ، أي هلاككم كما هلكوا . وهذا بيان من الله تعالى لجميع الناس ليهتدوا به وليعرفوا سنته . ومن سنته تعالى أن لسير الناس في الحياة سنناً يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها يؤدي إلى الهلاك والشقاوة وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى ما توصل إليه تلك السنن . والذي ينتفع بهذا البيان هم المتقون الذين يهتدون به ويتعظون بما يقصه الله عليهم من أحوال السابقين وما يبينه لهم ما حلّ فيهم بسبب تكذيبهم رسلهم ورفضهم هدى الله تعالى2 .
204 ـ الدليل الثاني : الاعتبار بإهلاك الكافر الأقوى :
قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)3 ، والقرن الأمة من الناس . وقيل أهل قرن ، والقرن على هذا المعنى مدة من الزمان قيل مئة سنة وعليه أكثر أهل الحديث والمعنى : ألم يروا إلى مصارع الأجيال السابقة وقد مكنهم الله تعالى في الأرض وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان والنعم الفيرة ما لم يعط مثله للمخاطبين من كفار قريش ثم لم تكن تلك المواهب والنعم والقوة والسلطان بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بتكذيبهم رسل الله تعالى ، وأنشأنا من بعدهم جيلاً آخر لنختبرهم فعملوا مثل أعمال من سبقهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون ـ أي كفار قريش ـ أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز على الله تعالى منهم4 .
205 ـ الدليل الثالث : لا يستوي الخبيث والطيب :
قال تعالى : (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)1 ، في هذه الآية الكريمة حكم عام على نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين : الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال والفاسد والصالح والحلال والحرام ولا يستوي الخبيث والطيب من الناس كالظالم والعادل والمفسد والمصلح والبرّ والفاجر والمؤمن والكافر ، فلكل من الخبيث والطيب مما ذكرناه حكم يليق به ويناسبه ، فالمساواة منتفية بين النوعين : الخبيث والطيب (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها كأكل الربا والرشوة فلا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك ، فالعبرة بصفة الشيء وما هو عليه من خبث أو طيب . فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ولا بكثرة أهل الباطل والفساد الخبيثين ، فإن تقوى الله هي التي تجعلكم في زمرة الطيبين الفائزين في الدنيا والآخرة2 .
206 ـ المتساوون في موجبات العقاب يعاقبون :
موجبات العقاب من تكذيب الرسل أو عصيان شرع الله أو ظلم عباد الله أو الكفر بنعم الله وغير ذلك إذا تلبس بها قوم أو فئة أو شخص استوجبوا عقاب الله في الدنيا والآخرة . ومن عقابهم في الدنيا هلاكهم أو إصابتهم بالذل والهوان وضيق العيش وزوال الأمن منهم والاطمئنان وغير ذلك . وبهذا مضت سنة الله في الأولين وتجري في الحاضرين واللاحقين ، والأمثلة على ذلك نذكر بعضها مما قصه الله علينا للعبرة والاتعاظ .
207 ـ أولاً : من يبدل نعمة الله فإن الله شديد العقاب :
قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)3 .
قال الإمام القرطبي : قوله تعالى : (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ) لفظ عام لجميع الناس ، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله4 ، أي فيصيب كل مبدل نعمة الله العقاب الذي يستحقه . ولم يقل فإن الله يعاقبهم وإنما قال : (فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ليشعرنا بأن هذا من سنته العامة التي تجري على المبدلين لنعمة الله في الحاضر والمستقبل كما جرت على المبدلين السابقين في الزمن الماضي5.
208 ـ المقصود بنعمة الله وتبديلها :
والمقصود بنعمة الله التي يستوجب تبديلها عقاب الله هي نعمة الإسلام والإيمان وما أنزله الله تعالى من الآيات البيِّنات الدالة على دينه الحق الإسلام .
وتبديل هذه النعمة يعني عدم التصديق بها أو عدم الاهتداء بها وعدم القيام بما تستوجبه من طاعة الله باتباع شرعه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم . وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة ، وما حلَّ بالمسلمين من شقاء وضيق وعيش تعيس فسببه تبديلهم نعمة الله عليهم بنقيض ما تقتضيه من الشكر لله تعالى والعمل بشريعته6 .
209 ـ ثانياً : من يخالف بعض شرع الله يعاقبه الله :
قال تعالى مخاطباً اليهود : (ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)7 .
والمعنى أن الله تعالى أخذ العهود على اليهود أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرجوهم من ديارهم ولا يظاهرون عليهم في ذلك ، وأن يفادوا أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله تعالى على ذلك توبيخاً يُتلى فقال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي تأخذون الفداء وتتركون البعض الآخر من التوراة وهو النهي عن القتل والإخراج من ديارهم (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين وعصيانه وعدم الإيمان به كله ، والعقاب هو الخزي العاجل الذي يصيبهم في الدنيا والعذاب الآجل في الآخرة . وقد شهدت الوقائع التاريخية بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها واعتدت حدود شريعتها إلا تفرق شملها ونزل بها الذل والهوان وهو بعض الخزي في الدنيا وهذه هي سنّة الله التي يجب أن يحصل بها الاعتبار ولا يغفل عنها المسلمون1 .
وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر نقض العهود وميثاق الله عليهم قال رحمه الله تعالى : (ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع فتضافر بعضنا على بعض ليت بالمسلمين بل بالكافرين حتى إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)2 ، وما ذكره الإمام القرطبي هو بعض ما فعله المسلمون بعد عصره وفي عصرنا الحاضر فحلَّ بهم ما حذر الله منه اليهود لأن من سنة الله تساوي المتساوين في موجبات العقاب بالعقاب الذي حذر منه .
210 ـ ثالثاً : عقاب الاحتيال على شرع الله :
وعقاب الاحتيال على شرع الله لتعطيله وعدم العمل به ، هذا العقاب يصيب كل محتال على شرع الله تعالى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)3 .
الآية الكريمة تشير إلى اعتداء اليهود بما فعلوه من احتيال على اصطياد الحيتان يوم السبت وكانوا ممنوعين منه فظنوا أنهم باحتيالهم ينجون من العقاب فعاقبهم الله تعالى بعقوبة جعلها الله (نكالاً) أي عبرة لغيرهم لأن النكال هو ما يُفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر به غيره . (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) ، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من الناس من العقاب فيمقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم4 .
وفي تفسير القرطبي : (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) الوعظ يعني التخويف .
قال ابن عطية : اللفظ عام ، يعم كل متقٍ من كل أمة . وقال الزجاج : (وموعظة للمتقين) لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا ما نهاهم الله عنه فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت لما انتهكوا ما نهاهم الله عنه5 .
يتبع
211 ـ رابعاً : معاداة المؤمنين مجلبة للخذلان والدمار :
قال تعالى : (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ)6 . والمعنى أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخلوا في الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم ، وإن عادوا إلى معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداة المؤمنين على معنى إن داوموا عليها فقد مضت سنة الله أي عادة الله سبحانه وتعالى الجارية ف الذين تحزبوا على الأنبياء وأتباعهم المؤمنين أن تجري هذه السنة على هؤلاء المعادين للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين بأن ينصر الله المؤمنين عليهم ويخذلهم ويدمرهم7 .
212 ـ خامساً : عاقبة الظلم تصيب كل ظالم :
قال تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌوَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)8 .
والمعنى أن تلك القرى ، بقي من بعضها شيء ، وبعضها هلك وما بقي منه أثر البتة ثم قال تعالى : وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية . (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي إن عذاب الله ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك . وقوله تعالى : (وَهِيَ ظَالِمَةٌ) أي أهل تلك القرى .
وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية غير مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) فينبغي أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي مما يصدق عليه وصف ((الظلم)) فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد1 .
213 ـ سادساً : من يُسخط الله يصبه عقابه :
قال تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)2 ، قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي أسخطونا . وقوله تعالى : (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون فيهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم3 .
214 ـ سابعاً : ينزل العقاب على مستحقيه مهما كانت قوتهم :
أ ـ قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)4 . فالعقاب ينزل على المتساوين في استحقاقه وإن اختلفت مراكزهم في القوة والسلطان لأن القوي أمام الله ضعيف مهما كانت قوته فينزل عليه العذاب الذي يستحقه . فإذا رأى الظالم المتمرد على الله أن الله أهلك من هو أقوى منه وأكثر أتباعاً وأوسع سلطاناً كان ذلك أدعى له إلى العبرة والاتعاظ . فقوم (تُبّع) كانوا كافرين ولهم قوة ومنعة ومع هذا أهلكهم الله تعالى لكونهم عتاة مجرمين متمردين على شرع الله ، فليحذر كفار قريش وغيرهم من الكفرة الإهلاك بسبب كفرهم كما أهلك من قبلهم
ـ أي قوم تبع ـ مع أنهم كانوا أكثر من قريش قوة ومنعة وسلطاناً5 .
ب ـ وقال تعالى : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)6 ، أي فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد فجعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم أي ما أصاب من سبقهم من المكذبين7 .
ج ـ وقال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ)8 ، وقال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ)9 ، أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ، لماذا أهلكوا وكانوا أكثر منكم قوة فكيف تضمنون أنتم أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم . ولقد أهلكنا أمثالكم في الكفر من الأمم السابقة فهل من معتبر
بذلك؟10 .
215 ـ عاقبة الكفار واحدة :
قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)11 . دمّر الله عليهم أي أهلكهم ، ثم تواعد وهدد وحذر مشركي مكة فقال تعالى : (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي لهم أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا12 .
216 ـ جزاء المجرمين والجاحدين كجزاء أمثالهم السابقين :
أ ـ قال تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)13 أي ألم نهلك الأولين من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوا به من ربهم ثم نتبعهم الآخرين ، أي ثم نفعل بأمثالهم من المجرمين اللاحقين مثل ما فعلناه بالمجرمين الأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم (كذلك) أي مثل ذلك الفعل الشنيع وهو الإهلاك نفعل بكل من أجرم14 .
ب ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون)1 .
والمعنى : لقد أعطينا الأمم السابقة من الأموال والأولاد والقوة ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه ، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فلم تغنِ عنهم من شيء لأنهم جحدوا بآيات الله فأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، فاحذروا أيها المخاطبون ـ يا كفار قريش ـ أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة2 . وهذا تحذير لكل جاحد لآيات الله تعالى .
ج ـ وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ)3 . والمعنى : لقد أوقعنا (المثلات) أي العقوبات بأمثالهم من المكذبين من الأمم الخالية أي السالفة ، وجعلناهم وما نزل بهم من العقوبات عبرة وعظة لمن اتعظ بهم ، فما لهم لم يعتبروا بذلك؟4 .
217 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر :
أ ـ قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)5 أي أنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ، فكيف تظنون ذلك6 . وفي تفسير القرطبي : قال ابن عباس ، قال كفار مكة : إنا نُعطى في الآخرة خيراً مما يُعطى المسلمون ، فنزلت الآية ثم وبَّخهم فقال تعالى : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم7 .
ب ـ وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)8 . والمعنى أن الله تعالى قد نفى المساواة بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار فلا تساوي بينهم في الىخرة ولا مساواة أيضاً بينهم في الدنيا9 .
ج ـ وقال تعالى : (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)10 . قال ابن كثير : (أي لا يستوي المؤمنون والكافرون ، وساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار ، ساء ما يحكمون)11 . أي ساء حكمهم هذا وهو حكمهم بالتساوي فيما بين المؤمنين والكافرين12 . ومن مظاهر عدم التساوي بينهم في الدنيا ، أن الله تعالى هو ولي المؤمن في الدنيا ، وأنصاره هم المؤمنين ، وعند الموت تبشره الملائكة بحسن العاقبة وبرحمة الله ورضوانه . أما الكافر فبالضد من ذلك يعيش كافراً ويكون الشيطان وليه ، وعند الموت يموت على اليأس من رحمة الله ، وعلى الكفر به13 .
218 ـ لا مساواة بين المؤمن والكافر وإن عمل خيراً :
الكافر لا يساوي المؤمن وإن عمل الكافر خيراً أي أعمالاً حسنة بذاتها أو نافعة للناس ، لأن هذه الأعمال لا تقوى على محو جريمة كفره وتمرده على الله فلا يمكن أن يساوي المؤمن الذي عنده الإيمان بالله وإن لم يتيسر أن يعمل خيراً كثيراً . فيبقى المؤمن ومعه حسنة الإيمان أرجح دائماً من الكافر وإن عمل شيئاً حسناً ما دام بقي كافراً ، فلا مساواة أبداً وفي جميع الأحوال بين المؤمن والكافر قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)14 . قال ابن كثير: إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمّاره ، فميز الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم على قيام المشركين بعمارة البيت وقيامهم بالسقاية ولم يكن ينفعهم ذلك عند الله تعالى مع شركهم به وإن كانوا يعمرون بيته قال تعالى : (لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسمّاهم الله ظالمين بشركهم فلم تغنِ عنهم عمارة البيت شيئاً1 .
219 ـ التفاضل بين أعمال البرّ :
أعمال البرّ في الإسلام غير متساوية في المنزلة ولا في الثواب عند الله تعالى فبعضها أفضل من بعض ، وينبغي لذلك أن يكون الاهتمام بالأهم والأرجح والأفضل والأحب لله تعالى والاعلى منزلة عنده . وعلى هذا فعند التزاحم وتعذر عمل الاثنين أن يقدم الأفضل على المفضول والراجح على المرجوح والأهم على المهم والأحب على المحبوب . وهذا في أعمال البر غير الواجبة ، أما في عمل الواجب في حق المسلم والقادر على فعله فهذا يلزم فعله ولا يزاحمه عمل برّ مندوب ، لأن ما هو واجب مقدم على ما ليس بواجب دائماً .
وقد دلّ على ما قلته أي على التفاضل في أعمال البرّ الآية التي ذكرناها وهي (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ..) الخ فقد جاء في تفسيرها وجه آخر غير الذي ذكرناه ، فقد قال الرازي في تفسيرها : يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين كما يحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين . أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين كما يحتمل انها جرت بين المسلمين والكافرين . قالوا إنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين : (أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ) ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله تعالى وذلك لا يليق إلا بالمؤمنين2 .
220 ـ من أدلة التفاضل بين الأعمال :
ومما يدل أيضاً على التفاضل بين الأعمال حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال : إيمان بالله ورسوله . قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل ثم ماذا؟ قال الحج المبرور3 . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة : أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان4 .
221 ـ التفاضل بين المؤمنين بتفاضل أعمالهم :
المؤمنين غير متساوين في الدرجة عند الله تعالى لتفاضلهم في أعمال البر التي يعملونها قال تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)5 . والمعنى لا يستوي من أنفق قبل فتح مكة وقاتل ومن أنفق بعد هذا الفتح وقاتل ، فأولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح . وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات6 .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . قالوا ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره7 .
يتبع
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر