(افتح قلبك مع د.هبة يس).....أمى مفترية أم ضحية؟
د. هبة يس
أرسلت (...) إلى افتح قلبك تقول:
أنا شابة عمرى 21سنة، طالبة فى كلية من كليات القمة، الأخت الكبرى لثلاثة إخوة آخرين، تزوج والدى بوالدتى وسافرا منذ سنوات طويلة إلى الخليج ككثير من أبناء جيلهم، وجئنا جميعا أنا وإخوتى الثلاثة إلى الحياة هناك، وكنا نعيش حياة عادية كأسرة واحدة إلى أن حصلت على شهادة الثانوية العامة وحان الوقت لألتحق بالجامعة هنا فى مصر، فما كان من أهلى إلا أن أرسلونى لأعيش هنا فى مصر كضيفة فى بيت إحدى القريبات، والتى توسموا فيها أنها ستهتم وتعتنى بابنتهم التى أصبحت غريبة ووحيدة فجأة، فقد كنت هكذا بالفعل، جئت إلى مصر بعد 16 سنة من العيش بالخارج، لا أعرف شيئا، لا أصحاب ولا معارف، ولا أماكن ولا شوارع، ولا حتى لغة الحوار بين من هم فى مثل سنى.
إلا أن الحال لم يستقر، فقد ضاقت هذه القريبة بتلك الغريبة "أنا" سريعا، وبدأت المشاكل والخلافات التى تقرر على إثرها أن أنتقل إلى العيش مع قريبة أخرى، وبالرغم من معرفة أهلى أن هذه الأخرى قبلتنى على مضض، إلا أنهم فضلوا تجاهل هذا الأمر وأرسلونى إليها بكل (بجاحة)، وللمرة الثانية لم تستقر الأمور أيضا، فمن هذا الذى يتحمل مسئولية بنت فى مثل سنى، لا يعرفها ولا يربطه بها شىء سوى مجرد مسمى القرابة؟
تحملت الوضع قدر استطاعتى ومرت أول سنة دراسية لى بالجامعة، ونجحت بالرغم من صعوبة ظروفى وبالرغم من الضغط الكبير الواقع على، لكنى طلبت من أهلى أن يوفروا لى بيتا أعيش فيه حياة مستقرة وعادية، لأنى لن أستطيع أن أكمل بقية سنوات دراستى الطويلة بهذا الوضع، فكانت تلك هى غلطتى التى يلومنى عليها الجميع منذ 5 سنوات مضت وحتى الآن.
فبناء على طلبى هذا قرر أبى إرسال أمى وإخوتى للعيش معى هنا فى مصر، فى منزل خاص بنا، وترتب على هذا بالطبع أن تركت أمى أبى وحيدا فى الخليج، وتركت عملها هناك، وانتقل أخوتى للدراسة هنا فى مدارس مصرية، بعد أن كانت مدارسهم دولية هناك، باختصار تغير كل شىء فى حياتنا التى كانت مستقرة لسنوات طويلة، وبالنسبة للجميع لم يكن كل هذا إلا بسببى أنا، فلولاى لما حدث كل هذا.
بالطبع الانتقال كان صعبا على الجميع، على أمى وعلى أخوتى، وحتى على أبى الذى وجد نفسه بمفرده بعد كل هذه السنوات، مما سبب الكثير من المشاكل والمشاحنات والخلافات فى حياتنا، والذى نتج عنها أن تزوج أبى بأخرى بعد نزول أمى وأخوتى مصر بسنتين، كان رأيه أن هذا الوضع سيستمر طويلا، لأنه عندما أكون أنا أنهى دراستى الجامعية، سيكون بدأها أخى الأصغر منى، وهكذا، وبالتالى هو لن يستطيع العيش بمفرده بقية حياته، بينما كان رأى أمى أن أبى استغل الموقف لصالحه وقرر أن يغير حياته ويبدأها من جديد بدوننا بعد أن تخلص منها ومنا...وطبعا السبب من؟...أنا بكل تأكيد!!.
لم تعد علاقتنا بوالدى تتعدى حدود المبلغ الذى يرسله إلينا كل شهر، وتلك الأيام القليلة التى يقضيها معنا فى مصر كل صيف، والتى لا يستمتع بها أى منا، فهو يتأذى من الشوارع والزحام والضوضاء، وأمى تتأذى من وجوده معنا بعد أن اختار غيرها، ونحن نتأذى من شجاراتهم المستمرة التى لا تنقطع إلا بسفره إلى عمله مرة أخرى، وتمضى الأيام على هذا الحال.
ولم يعد هناك مجال لتفريغ غضب أمى وغيظها وحسرتها إلا فى أنا شخصيا، فمنذ أن عادت أمى إلى مصر وهى تعاملنى على أنى سبب زعزعة استقرارها وتغيير حياتها بالشكل الذى لم تكن تريده، الوضع الذى زاد سوءا وبشاعة بعد زواج أبى، فقد أصبحت فى نظرها أنا السبب فى هدم حياتها وتدمير بيتنا إلى الأبد، ونتيجة لذلك فهى تعاملنى بطريقة لا يمكن لأم أن تعامل بها ابنتها أبدا، شجار مستمر يصل إلى أسماع الجيران، ويتطور إلى الضرب أحيانا وأنا فى مثل هذا السن، إهمال شديد لى ولمتطلباتى، فلا ملابس جديدة، ولا مصروف للمواصلات، ولا حتى طعام يؤكل فى البيت، فإذا عدت من كليتى بعد موعد غداء أخوتى ولم يتبق لى طعام، وهذا يحدث كثيرا، فلا طعام، فقد آكل أى شىء أجده فى الثلاجة أو لا آكل حتى اليوم التالى، بل إن الأمر تطور إلى حد أنها أصبحت لا تسأل عنى تماما، لا تعرف أين أنا، ولا إن كنت عدت من كليتى أم لا، ولا إن كنت أنام فى غرفتى من عدمه...فقد أصبحت بالنسبة لها غير موجودة، لا ترانى ولا تريد أن ترانى.
سأحكى لك يا دكتورة موقفا ربما لن تصدقيه، لكن لك أن تتخيلى أنه حدث معى، عدت فى يوم من الكلية لأجد شقتنا مغلقة بالمفتاح ولا أحد بالداخل، اتصلت بأمى لأعرف أين هى، فقالت لى إنها سافرت يومين عند أختها فى محافظة أخرى، ومعها إخوتى، فقلت لها أريد أن أدخل البيت وليس معى مفتاح، قالت لى اذهبى لعمك أو عمتك حتى أعود!!، وبالطبع لم يكن أمامى سوى الذهاب إلى عمى لأبيت عنده، وظللت فى بيته أنام فى غرفة ابنته وألبس من ملابسها ثلاثة أيام، وأمى لم تكلف نفسها حتى عناء الاتصال بى لمعرفة أين أنا!!.
حاولت اللجوء لخالى ولخالتى علهما يرققا قلب أختهما على، ولكنهما لا يريان سوى أن أختهما ضحية، ضاع عمرها هدرا بين زوج ناكر للجميل وأبناء جاحدون لا يقدرون تضحيتها من أجلهم، ولا أحد لديه استعداد لفهم غير ذلك.
حاولت اللجوء لأبي، والذى لم تكن أبدا علاقتنا به قوية فى يوم من الأيام، فلم يكن منه إلا أن قال لى إنه يؤدى كل مسئولياته تجاهنا، وأنه يرسل إلى أمى مبلغا كبيرا كل شهر، وأن الباقى من ِشأننا نحن، وأنه لا يريد سماع المزيد من المشاكل و(الخرافات) التى تتعمد أمى إثارتها لتكدر صفو حياته...لم يعد لى أحد، فعلا أنا لا أتكلم مع أحد منذ أن أدخل بيتنا إلى أن أخرج منه فى اليوم التالى!! حاولت أن أعمل بجانب دراستى، لكسب بعض المال لأنفق على نفسى من جهة، ولأجد حولى أناس أكلمهم وأعيش معهم، وبدأت أعمل بالفعل، لكن الأمر ضاغط جدا بالنسبة لى، خاصة وأن أمى ترفض فكرة عملى هذه لأنها تجعلنى خارج المنزل طوال اليوم، طلبت منها أن تعطينى ما يكفينى حتى لا أضطر إلى ذلك، فكان ردها أنها تدفع لى مصروفات كليتى وثمن كتبى ودروسى وهذا كل ما لى عندها، لأن ما هو أكثر من ذلك يعتبر رفاهيات إخوتى الصغار أولى بها، لدرجة أنى أصبحت أراجع نفسى كثيرا قبل أن أطلب منها أى شىء، فهل من الرفاهية أن أطلب ملابس جديدة غير تلك التى عدت بها من الخارج منذ 5 سنوات؟ مع العلم أن مستوانا المادى مرتفع جدا وأن كل من والدى ووالدتى لديهما ممتلكات وعقارات وأرصدة محترمة فى البنوك.
لم يعد أمامى سوى التفكير فى الهروب من هذا البيت، ولكنى لن أهرب على طريقة الأفلام الساذجة والمهينة، فقد قررت الهروب عن طريق الارتباط بأول شخص يأتى طالبا يدى، فلله الحمد هناك الكثيرون يتوددون إلى، ومنهم من ينتظر منى القبول حتى يتقدم إلى أهلى بشكل رسمى، لم يعد أمامى سوى هذا الحل حتى أشعر بأنى لست وحيدة تماما فى هذا العالم، حتى أجد من يهتم بى ويسأل عنى، حتى أجد من يمسح دموعى ويشعرنى بالحنان والحب، فلا أكذب عليكى يا دكتورة أنا أصبحت هشة جدا وضعيفة جدا من هذه الجهة، فقد أصبحت أتوق إلى أى كلمة حلوة أو نظرة حنونة من أى إنسان.
لكنى وبكل صراحة وبكل أسف لا أجد حلمى فى أى من هؤلاء الذين أمامى، فبالرغم من كل معاناتى هذه إلا أنى لازلت أحلم بزوج له مواصفات مميزة، أريد شخصا طموحا، ذكيا، ناجحا، وفوق كل هذا يحبنى ويحتوينى بالطبع، وهذا هو ما لم أجده فى أى من هؤلاء حتى الآن، فهناك من يحبنى ويتمنى رضاى، ولكنى أراه أقل منى كثيرا فى الإمكانيات الشخصية والعقلية، وهناك من هو شخص ناجح ومتفوق بل وغنى أيضا، ويريد الارتباط بى طمعا فى عائلتى ومدخراتها، وبالطبع لا يهتم بى ولا يفكر فى الحب من عدمه من الأساس، وهناك من يريد الارتباط بى بشكل تقليدى لمجرد أننا "خريجين" لنفس الكلية وأننا سنتعاون معا فى العمل مستقبلا... فعندما أفكر مع نفسى بصدق أجدنى لا أريد أى من هؤلاء فعلا، وأتمنى لنفسى زيجة غير ذلك تماماً، ولكنى أعود لأتذكر ذلك الجحيم الذى أحيا فيه، فأكتشف أنى أحتاج إلى القبول بأحدهم وفى أسرع وقت، حتى تتوفر لى أبسط سبل الحياة الآدمية العادية.. ماذا أفعل يا دكتورة؟ فى رأيك أنت أى الطرق أختار؟
وإليك أقول:
وردت لى رسائل كثيرة، يشكو فيها الأبناء من سوء معاملة الآباء، لكن بصراحة لم تكن فيهم رسالة مثل رسالتك، فأنت حالة فريدة من نوعها، ليس فقط بسبب شكل الإساءة وغرابته، ولكن أيضا بسبب تعقد الأدوار، وكونها مركبة إلى حد بعيد، فكل شخص فى هذه القصة له وجهان، ويلعب دوران، كل منكم جان وضحية فى نفس الوقت.
وسأبدأ بك، بحسب روايتك أنت لم تقترفى إثما، وكل ذنبك هو أنك كنت الابنة الكبرى لهذه الأسرة، وبالتالى أنت التى جاءت على يديكى الصدمة، صدمة أنه حان الوقت للعودة وإلى التغيير وإلى التأقلم من جديد، وهذه كلها أشياء لم تكن على الحسبان، وكلها أشياء ثقيلة ومتعبة ومؤرقة، تخل من اتزان أى أسرة بكل تأكيد، خاصة وبعد أن تبعها حدث أكبر، وهو زواج والدك من أخرى، وهو الشىء الذى لم تستطع والدتك غفرانه، والتهاون فيه، لهذا فهى تلوم الظروف، والأيام، والأسباب، والتى على رأسها من وجهة نظرها الخاطئة، أنت، إذا فأنت مذنبة فى نظر أمك، حتى وإن لم يكن هذا صحيحا، وهو غير صحيح بكل تأكيد، لكنها ترى الأمور بهذا الشكل.
إلا أنك فى حقيقة الأمر ضحية عدم استقرار الظروف، وعدم ترابط الأسرة، وعدم توفر الإمكانيات، وعدم وجود أى مشاعر أو ألفة فى هذا البيت، كما أنك تعانين وحدك ضغوط التأقلم مع الحياة الجديدة، والدراسة العملية الشاقة، والالتزام بعمل إضافى أيضا، وهذا ليس بالأمر الهين بكل تأكيد، لهذا أنا أقدر تماما صعوبة موقفك، وأتفهم معاناتك جدا، وأقول لك تأكدى أنه من حقك الأفضل دائما.
أما بالنسبة لوالدتك، فأنت ترين أنها مذنبة بكل المقاييس، أم عنيفة، جافة، غير متفهمة، مهملة وغير مهتمة إلى أبعد الحدود، أليس كذلك؟ لكن هل سألتى نفسك من قبل لماذا هى كذلك؟ أنا لا أدافع عنها، ولكنى سأحاول أن أشرح لك ما يعتمل بداخلها علك تقتربين منها وتفهمينها، أمك تشعر أنها كانت زوجة، وأم لأربعة أطفال، وامرأة عاملة، وسيدة مغتربة، لسنوات طويلة، تشعر أنها عانت وتعبت كثيرا فى بناء هذه الأسرة، ومن أجل أن يكون لها مستقبل مأمونا ومستقرا بقدر الإمكان، وفجأة وجدت نفسها مجبرة على التخلى عن استقرارها، وعملها، وبيتها، وزوجها، وحياتها التى ألفتها لسنوات بأكملها، حتى تبدأ معاناة التأقلم والبداية من جديد، ليس هذا وفقط، بل وهى محملة بمسئولية أربعة أبناء، وكل هذا وهى وحدها، ولعلها قبلت على أمل أن تنتهى هذه المهمة قريبا وتعود إلى مكانها من جديد، أو حتى يعود والدك ليعيش بينكم فى يوم من الأيام، إلا أن هذا الأمل انهار تماما عندما علمت أن والدك قرر عدم العودة نهائيا، بأن اختار أن يكون له حياة أخرى هناك، والأقسى من ذلك أنها لن يعود لها مكان فى هذه الحياة معه، فهى شعرت أنه طردها من حياته إلى غير رجعة، فإن كنت مكانها كيف ستشعرين؟ كيف سترين المستقبل؟ هى تشعر أنها ستقضى سنوات طويلة مقبلة تلعب دور (المربية) لك ولأخوتك، حتى ينهى كل منكم دراسته الجامعية، ويصبح له عمله وحياته الخاصة، ويستطيع الوقوف على قدمه بمفرده، لتجد نفسها بعد كل هذا وحيدة تماما، بلا زوج، بلا عمل، بلا مستقبل ولا حتى حاضر، اللهم إلا من بعض الأموال التى جمعتها والتى تحرص عليها الآن بصفتها أمانها الوحيد المتبقى.. كيف تكون الحياة إذا؟
أمك غاضبة، ناقمة، رافضة لكل ما يحدث، ولكنها بدلا من أن تتعامل مع الحدث، تتعامل مع الأسباب الظاهرية له، تنتقم من الأيام فى صورتك، ولكنه، ولله الحمد، انتقاما سلبيا، يتلخص فى الإهمال والانسحاب والتراجع، وعدم الرغبة فى ممارسة الحياة كأم حقيقية وإيجابية.
وحتى والدك، الذى تراه أمك مخطئا، مستغلا للموقف، أنانيا لا يفكر إلا فى نفسه وفى راحته، هو أيضا ضحية فى نفس الوقت، فهل يجب لرجل فى مثل هذه السن أن يعيش مغتربا، بلا أسرة، وبلا زوجة، وبلا أهل ما تبقى له من عمر؟ ألم تفكرى فى صعوبة هذا الوضع من قبل؟، فقد يحتمل الإنسان الظروف القاسية لسنة أو اثنتين أو حتى عشرة إن كان الوضع مؤقتا، إلا أنه وعلى حسب قصتك لقد بدأ الأمر ولن ينتهى إلا بعد انتهاء أصغر إخوتك من دراسته الجامعية هو الآخر، أى بعد عمر، فهل من الممكن أن يظل الرجل وحيدا طيلة هذا الوقت؟
قد يبدو الأمر وكأنى أبرر لكل منهم موقفه، لأنى أتفق معه، إلا أنى فى حقيقة الأمر أرى أن الكل أخطأ فى تقدير وتخطيط المستقبل، وفى التعامل مع الموقف الحالى، فقد كان لزاما على والديك أن يفكرا فى مثل هذا اليوم منذ زمن بعيد، وأن يخططا له، فمن المؤكد أنهما كانا يعرفان أن أولادهما سيدخلان الجامعة فى يوم ما، وأنهما سيحتاجان إلى تدبير أمور معيشتهم، وإلى تغيير الكثير من الأوضاع حينذاك، كان يجب عليهما أن يتفقا على أن يصبحا معا فى أى مكان وتحت أى ظرف، فإما أن تظلوا هناك جميعا، وتضحوا باختيار الجامعات المصرية، أو أن تعودوا جميعا إلى هنا، لتبدأوا معا رحلتكم من جديد.. أعرف أن الكلام أسهل من الفعل بكثير، لكن وللعجب تلك هى المشكلة (المزمنة) للعائلات المصرية المغتربة منذ قديم الأزل، والتى تعصف بأمن واستقرار أسر كثيرة، ولكنه وللأسف لا أحد يتعلم من أخطاء من سبقوه، ولا أحد يخطط لهذا اليوم كما يجب أبدا.
عودة لك يا آنستى، أؤكد لك أنى أقدر صعوبة موقفك، وقسوة حياتك، ولكنى تلمست من خطابك أنك شخصية ليست بالضعيفة أبدا، فأنت استطعت التأقلم مع تغير البيئة والمجتمع، ومع عدم استقرار المعيشة، ومع المعاملة السيئة، ومع ندرة الموارد، ومع دراسة صعبة، ومع جهد العمل أثناء الدراسة..أنت إنسانة مميزة بحق، حمولة، ومجتهدة، ومسئولة، وتفكرين برزانة شديدة، وتستحقين الكثير، ومن المؤكد أنك ستكونين شيئا عظيما يوما ما، فأنت الآن كالحديد الذى يتعرض للصهر والصقل حتى يصبح أقوى وأجود وأمتن فيما بعد، أؤكد لك أنك لديك الآن خبرات وقدرات ووعى ليسوا لدى الكثيرين ممن هم فى مثل سنك، صحيح قد تكون التجربة مؤلمة لكنها ستعلمك بلا شك، ستعلمك أن تعتمدى على نفسك، وأن تبحثى دائما عن أفضل ما عندك، وأن تقدرى قيمة الحب والمشاعر فى الحياة، لتصبحى أحن وأجمل زوجة وأم فى المستقبل إن شاء الله.
وردا على سؤالك أى الطرق تسلكين؟ أقول لك لا تتسرعى أبدا فى القبول بأى طالب ليدك تحت ضغط الظروف، أنت ستكونين حينها كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فمهما طالت فترة معيشتك فى بيت أهلك كم ستكون؟ 20، 25 سنة؟، لا تقارن إطلاقا ببقية عمرك الذى ستقضينه إن شاء الله فى بيت زوجك، والذى يجب أن تختاريه بعناية شديدة حتى لا تهربين من سيئ إلى أسوأ.
لا تجعلى احتياجك إلى الكلمة الحلوة والنظرة الحنونة يدفعك إلى التخلى عن أحلامك فى زوج المستقبل، فأنت تستحقين ذلك، وستجدينه بإذن الله، طالما تمسكت بطموحك وبإرادتك فى أن تكونى أفضل وأقوى مع الأيام، ولا تقصرى تفكيرك على الوضع الحالى، فما هى إلا سنة أو اثنتين لتتخرجى وتصبحى إنسانة أخرى، تعملين وتنجحين وتكبرين، وتبدأين رحلة تحقيق ذاتك، وحينها ستندمين أشد الندم إذا كنت تنازلت وقبلت الارتباط بمن لا ترضينه وتريدينه حقا.
ومن هنا إلى ذلك الحين لا تحرمى نفسك من العواطف والمشاعر الجميلة، ولكن من مصادر أخرى، لماذا لا تحاولين التقرب إلى إخوتك؟، فحتى إن لم تكونوا متفاهمين، فمن المؤكد أنه هناك منهم ولو واحد قابل للتفاهم والصداقة، لماذا لا تكسبى رفيقا لك فى بيتك من إخوتك؟، وماذا عن زملائك فى الدراسة أو فى العمل ؟، لماذا لا تحاولى اكتساب صديقة صدوقة منهم؟، لماذا لا تحاولين تبديد هذه العزلة النفسية التى أنت فيها بهؤلاء؟ ولو بشكل مؤقت حتى تجدين شريك حياتك المنتظر؟، بل والأكثر من ذلك لماذا لا تجربين مفاجأة أمك بالتقرب منها؟، لماذا لا تحاولين إخبارها بأنك تفهمين معاناتها، وتقدرين تضحيتها وتعبها؟، أعلم أنه صعب، لكنه إن حدث سيكون له أثر كبير فى علاقتكما بكل تأكيد.
وأخيرا أدعو الله لك من كل قلبى أن يعينك ويهون عليك تلك الفترة المقبلة، لكن دعينى أطمئنك (هانت إن شاء الله) ، اصبرى وتحملى فلم يتبق إلا القليل، وإن غداً لناظره قريب.
د. هبة يس
أرسلت (...) إلى افتح قلبك تقول:
أنا شابة عمرى 21سنة، طالبة فى كلية من كليات القمة، الأخت الكبرى لثلاثة إخوة آخرين، تزوج والدى بوالدتى وسافرا منذ سنوات طويلة إلى الخليج ككثير من أبناء جيلهم، وجئنا جميعا أنا وإخوتى الثلاثة إلى الحياة هناك، وكنا نعيش حياة عادية كأسرة واحدة إلى أن حصلت على شهادة الثانوية العامة وحان الوقت لألتحق بالجامعة هنا فى مصر، فما كان من أهلى إلا أن أرسلونى لأعيش هنا فى مصر كضيفة فى بيت إحدى القريبات، والتى توسموا فيها أنها ستهتم وتعتنى بابنتهم التى أصبحت غريبة ووحيدة فجأة، فقد كنت هكذا بالفعل، جئت إلى مصر بعد 16 سنة من العيش بالخارج، لا أعرف شيئا، لا أصحاب ولا معارف، ولا أماكن ولا شوارع، ولا حتى لغة الحوار بين من هم فى مثل سنى.
إلا أن الحال لم يستقر، فقد ضاقت هذه القريبة بتلك الغريبة "أنا" سريعا، وبدأت المشاكل والخلافات التى تقرر على إثرها أن أنتقل إلى العيش مع قريبة أخرى، وبالرغم من معرفة أهلى أن هذه الأخرى قبلتنى على مضض، إلا أنهم فضلوا تجاهل هذا الأمر وأرسلونى إليها بكل (بجاحة)، وللمرة الثانية لم تستقر الأمور أيضا، فمن هذا الذى يتحمل مسئولية بنت فى مثل سنى، لا يعرفها ولا يربطه بها شىء سوى مجرد مسمى القرابة؟
تحملت الوضع قدر استطاعتى ومرت أول سنة دراسية لى بالجامعة، ونجحت بالرغم من صعوبة ظروفى وبالرغم من الضغط الكبير الواقع على، لكنى طلبت من أهلى أن يوفروا لى بيتا أعيش فيه حياة مستقرة وعادية، لأنى لن أستطيع أن أكمل بقية سنوات دراستى الطويلة بهذا الوضع، فكانت تلك هى غلطتى التى يلومنى عليها الجميع منذ 5 سنوات مضت وحتى الآن.
فبناء على طلبى هذا قرر أبى إرسال أمى وإخوتى للعيش معى هنا فى مصر، فى منزل خاص بنا، وترتب على هذا بالطبع أن تركت أمى أبى وحيدا فى الخليج، وتركت عملها هناك، وانتقل أخوتى للدراسة هنا فى مدارس مصرية، بعد أن كانت مدارسهم دولية هناك، باختصار تغير كل شىء فى حياتنا التى كانت مستقرة لسنوات طويلة، وبالنسبة للجميع لم يكن كل هذا إلا بسببى أنا، فلولاى لما حدث كل هذا.
بالطبع الانتقال كان صعبا على الجميع، على أمى وعلى أخوتى، وحتى على أبى الذى وجد نفسه بمفرده بعد كل هذه السنوات، مما سبب الكثير من المشاكل والمشاحنات والخلافات فى حياتنا، والذى نتج عنها أن تزوج أبى بأخرى بعد نزول أمى وأخوتى مصر بسنتين، كان رأيه أن هذا الوضع سيستمر طويلا، لأنه عندما أكون أنا أنهى دراستى الجامعية، سيكون بدأها أخى الأصغر منى، وهكذا، وبالتالى هو لن يستطيع العيش بمفرده بقية حياته، بينما كان رأى أمى أن أبى استغل الموقف لصالحه وقرر أن يغير حياته ويبدأها من جديد بدوننا بعد أن تخلص منها ومنا...وطبعا السبب من؟...أنا بكل تأكيد!!.
لم تعد علاقتنا بوالدى تتعدى حدود المبلغ الذى يرسله إلينا كل شهر، وتلك الأيام القليلة التى يقضيها معنا فى مصر كل صيف، والتى لا يستمتع بها أى منا، فهو يتأذى من الشوارع والزحام والضوضاء، وأمى تتأذى من وجوده معنا بعد أن اختار غيرها، ونحن نتأذى من شجاراتهم المستمرة التى لا تنقطع إلا بسفره إلى عمله مرة أخرى، وتمضى الأيام على هذا الحال.
ولم يعد هناك مجال لتفريغ غضب أمى وغيظها وحسرتها إلا فى أنا شخصيا، فمنذ أن عادت أمى إلى مصر وهى تعاملنى على أنى سبب زعزعة استقرارها وتغيير حياتها بالشكل الذى لم تكن تريده، الوضع الذى زاد سوءا وبشاعة بعد زواج أبى، فقد أصبحت فى نظرها أنا السبب فى هدم حياتها وتدمير بيتنا إلى الأبد، ونتيجة لذلك فهى تعاملنى بطريقة لا يمكن لأم أن تعامل بها ابنتها أبدا، شجار مستمر يصل إلى أسماع الجيران، ويتطور إلى الضرب أحيانا وأنا فى مثل هذا السن، إهمال شديد لى ولمتطلباتى، فلا ملابس جديدة، ولا مصروف للمواصلات، ولا حتى طعام يؤكل فى البيت، فإذا عدت من كليتى بعد موعد غداء أخوتى ولم يتبق لى طعام، وهذا يحدث كثيرا، فلا طعام، فقد آكل أى شىء أجده فى الثلاجة أو لا آكل حتى اليوم التالى، بل إن الأمر تطور إلى حد أنها أصبحت لا تسأل عنى تماما، لا تعرف أين أنا، ولا إن كنت عدت من كليتى أم لا، ولا إن كنت أنام فى غرفتى من عدمه...فقد أصبحت بالنسبة لها غير موجودة، لا ترانى ولا تريد أن ترانى.
سأحكى لك يا دكتورة موقفا ربما لن تصدقيه، لكن لك أن تتخيلى أنه حدث معى، عدت فى يوم من الكلية لأجد شقتنا مغلقة بالمفتاح ولا أحد بالداخل، اتصلت بأمى لأعرف أين هى، فقالت لى إنها سافرت يومين عند أختها فى محافظة أخرى، ومعها إخوتى، فقلت لها أريد أن أدخل البيت وليس معى مفتاح، قالت لى اذهبى لعمك أو عمتك حتى أعود!!، وبالطبع لم يكن أمامى سوى الذهاب إلى عمى لأبيت عنده، وظللت فى بيته أنام فى غرفة ابنته وألبس من ملابسها ثلاثة أيام، وأمى لم تكلف نفسها حتى عناء الاتصال بى لمعرفة أين أنا!!.
حاولت اللجوء لخالى ولخالتى علهما يرققا قلب أختهما على، ولكنهما لا يريان سوى أن أختهما ضحية، ضاع عمرها هدرا بين زوج ناكر للجميل وأبناء جاحدون لا يقدرون تضحيتها من أجلهم، ولا أحد لديه استعداد لفهم غير ذلك.
حاولت اللجوء لأبي، والذى لم تكن أبدا علاقتنا به قوية فى يوم من الأيام، فلم يكن منه إلا أن قال لى إنه يؤدى كل مسئولياته تجاهنا، وأنه يرسل إلى أمى مبلغا كبيرا كل شهر، وأن الباقى من ِشأننا نحن، وأنه لا يريد سماع المزيد من المشاكل و(الخرافات) التى تتعمد أمى إثارتها لتكدر صفو حياته...لم يعد لى أحد، فعلا أنا لا أتكلم مع أحد منذ أن أدخل بيتنا إلى أن أخرج منه فى اليوم التالى!! حاولت أن أعمل بجانب دراستى، لكسب بعض المال لأنفق على نفسى من جهة، ولأجد حولى أناس أكلمهم وأعيش معهم، وبدأت أعمل بالفعل، لكن الأمر ضاغط جدا بالنسبة لى، خاصة وأن أمى ترفض فكرة عملى هذه لأنها تجعلنى خارج المنزل طوال اليوم، طلبت منها أن تعطينى ما يكفينى حتى لا أضطر إلى ذلك، فكان ردها أنها تدفع لى مصروفات كليتى وثمن كتبى ودروسى وهذا كل ما لى عندها، لأن ما هو أكثر من ذلك يعتبر رفاهيات إخوتى الصغار أولى بها، لدرجة أنى أصبحت أراجع نفسى كثيرا قبل أن أطلب منها أى شىء، فهل من الرفاهية أن أطلب ملابس جديدة غير تلك التى عدت بها من الخارج منذ 5 سنوات؟ مع العلم أن مستوانا المادى مرتفع جدا وأن كل من والدى ووالدتى لديهما ممتلكات وعقارات وأرصدة محترمة فى البنوك.
لم يعد أمامى سوى التفكير فى الهروب من هذا البيت، ولكنى لن أهرب على طريقة الأفلام الساذجة والمهينة، فقد قررت الهروب عن طريق الارتباط بأول شخص يأتى طالبا يدى، فلله الحمد هناك الكثيرون يتوددون إلى، ومنهم من ينتظر منى القبول حتى يتقدم إلى أهلى بشكل رسمى، لم يعد أمامى سوى هذا الحل حتى أشعر بأنى لست وحيدة تماما فى هذا العالم، حتى أجد من يهتم بى ويسأل عنى، حتى أجد من يمسح دموعى ويشعرنى بالحنان والحب، فلا أكذب عليكى يا دكتورة أنا أصبحت هشة جدا وضعيفة جدا من هذه الجهة، فقد أصبحت أتوق إلى أى كلمة حلوة أو نظرة حنونة من أى إنسان.
لكنى وبكل صراحة وبكل أسف لا أجد حلمى فى أى من هؤلاء الذين أمامى، فبالرغم من كل معاناتى هذه إلا أنى لازلت أحلم بزوج له مواصفات مميزة، أريد شخصا طموحا، ذكيا، ناجحا، وفوق كل هذا يحبنى ويحتوينى بالطبع، وهذا هو ما لم أجده فى أى من هؤلاء حتى الآن، فهناك من يحبنى ويتمنى رضاى، ولكنى أراه أقل منى كثيرا فى الإمكانيات الشخصية والعقلية، وهناك من هو شخص ناجح ومتفوق بل وغنى أيضا، ويريد الارتباط بى طمعا فى عائلتى ومدخراتها، وبالطبع لا يهتم بى ولا يفكر فى الحب من عدمه من الأساس، وهناك من يريد الارتباط بى بشكل تقليدى لمجرد أننا "خريجين" لنفس الكلية وأننا سنتعاون معا فى العمل مستقبلا... فعندما أفكر مع نفسى بصدق أجدنى لا أريد أى من هؤلاء فعلا، وأتمنى لنفسى زيجة غير ذلك تماماً، ولكنى أعود لأتذكر ذلك الجحيم الذى أحيا فيه، فأكتشف أنى أحتاج إلى القبول بأحدهم وفى أسرع وقت، حتى تتوفر لى أبسط سبل الحياة الآدمية العادية.. ماذا أفعل يا دكتورة؟ فى رأيك أنت أى الطرق أختار؟
وإليك أقول:
وردت لى رسائل كثيرة، يشكو فيها الأبناء من سوء معاملة الآباء، لكن بصراحة لم تكن فيهم رسالة مثل رسالتك، فأنت حالة فريدة من نوعها، ليس فقط بسبب شكل الإساءة وغرابته، ولكن أيضا بسبب تعقد الأدوار، وكونها مركبة إلى حد بعيد، فكل شخص فى هذه القصة له وجهان، ويلعب دوران، كل منكم جان وضحية فى نفس الوقت.
وسأبدأ بك، بحسب روايتك أنت لم تقترفى إثما، وكل ذنبك هو أنك كنت الابنة الكبرى لهذه الأسرة، وبالتالى أنت التى جاءت على يديكى الصدمة، صدمة أنه حان الوقت للعودة وإلى التغيير وإلى التأقلم من جديد، وهذه كلها أشياء لم تكن على الحسبان، وكلها أشياء ثقيلة ومتعبة ومؤرقة، تخل من اتزان أى أسرة بكل تأكيد، خاصة وبعد أن تبعها حدث أكبر، وهو زواج والدك من أخرى، وهو الشىء الذى لم تستطع والدتك غفرانه، والتهاون فيه، لهذا فهى تلوم الظروف، والأيام، والأسباب، والتى على رأسها من وجهة نظرها الخاطئة، أنت، إذا فأنت مذنبة فى نظر أمك، حتى وإن لم يكن هذا صحيحا، وهو غير صحيح بكل تأكيد، لكنها ترى الأمور بهذا الشكل.
إلا أنك فى حقيقة الأمر ضحية عدم استقرار الظروف، وعدم ترابط الأسرة، وعدم توفر الإمكانيات، وعدم وجود أى مشاعر أو ألفة فى هذا البيت، كما أنك تعانين وحدك ضغوط التأقلم مع الحياة الجديدة، والدراسة العملية الشاقة، والالتزام بعمل إضافى أيضا، وهذا ليس بالأمر الهين بكل تأكيد، لهذا أنا أقدر تماما صعوبة موقفك، وأتفهم معاناتك جدا، وأقول لك تأكدى أنه من حقك الأفضل دائما.
أما بالنسبة لوالدتك، فأنت ترين أنها مذنبة بكل المقاييس، أم عنيفة، جافة، غير متفهمة، مهملة وغير مهتمة إلى أبعد الحدود، أليس كذلك؟ لكن هل سألتى نفسك من قبل لماذا هى كذلك؟ أنا لا أدافع عنها، ولكنى سأحاول أن أشرح لك ما يعتمل بداخلها علك تقتربين منها وتفهمينها، أمك تشعر أنها كانت زوجة، وأم لأربعة أطفال، وامرأة عاملة، وسيدة مغتربة، لسنوات طويلة، تشعر أنها عانت وتعبت كثيرا فى بناء هذه الأسرة، ومن أجل أن يكون لها مستقبل مأمونا ومستقرا بقدر الإمكان، وفجأة وجدت نفسها مجبرة على التخلى عن استقرارها، وعملها، وبيتها، وزوجها، وحياتها التى ألفتها لسنوات بأكملها، حتى تبدأ معاناة التأقلم والبداية من جديد، ليس هذا وفقط، بل وهى محملة بمسئولية أربعة أبناء، وكل هذا وهى وحدها، ولعلها قبلت على أمل أن تنتهى هذه المهمة قريبا وتعود إلى مكانها من جديد، أو حتى يعود والدك ليعيش بينكم فى يوم من الأيام، إلا أن هذا الأمل انهار تماما عندما علمت أن والدك قرر عدم العودة نهائيا، بأن اختار أن يكون له حياة أخرى هناك، والأقسى من ذلك أنها لن يعود لها مكان فى هذه الحياة معه، فهى شعرت أنه طردها من حياته إلى غير رجعة، فإن كنت مكانها كيف ستشعرين؟ كيف سترين المستقبل؟ هى تشعر أنها ستقضى سنوات طويلة مقبلة تلعب دور (المربية) لك ولأخوتك، حتى ينهى كل منكم دراسته الجامعية، ويصبح له عمله وحياته الخاصة، ويستطيع الوقوف على قدمه بمفرده، لتجد نفسها بعد كل هذا وحيدة تماما، بلا زوج، بلا عمل، بلا مستقبل ولا حتى حاضر، اللهم إلا من بعض الأموال التى جمعتها والتى تحرص عليها الآن بصفتها أمانها الوحيد المتبقى.. كيف تكون الحياة إذا؟
أمك غاضبة، ناقمة، رافضة لكل ما يحدث، ولكنها بدلا من أن تتعامل مع الحدث، تتعامل مع الأسباب الظاهرية له، تنتقم من الأيام فى صورتك، ولكنه، ولله الحمد، انتقاما سلبيا، يتلخص فى الإهمال والانسحاب والتراجع، وعدم الرغبة فى ممارسة الحياة كأم حقيقية وإيجابية.
وحتى والدك، الذى تراه أمك مخطئا، مستغلا للموقف، أنانيا لا يفكر إلا فى نفسه وفى راحته، هو أيضا ضحية فى نفس الوقت، فهل يجب لرجل فى مثل هذه السن أن يعيش مغتربا، بلا أسرة، وبلا زوجة، وبلا أهل ما تبقى له من عمر؟ ألم تفكرى فى صعوبة هذا الوضع من قبل؟، فقد يحتمل الإنسان الظروف القاسية لسنة أو اثنتين أو حتى عشرة إن كان الوضع مؤقتا، إلا أنه وعلى حسب قصتك لقد بدأ الأمر ولن ينتهى إلا بعد انتهاء أصغر إخوتك من دراسته الجامعية هو الآخر، أى بعد عمر، فهل من الممكن أن يظل الرجل وحيدا طيلة هذا الوقت؟
قد يبدو الأمر وكأنى أبرر لكل منهم موقفه، لأنى أتفق معه، إلا أنى فى حقيقة الأمر أرى أن الكل أخطأ فى تقدير وتخطيط المستقبل، وفى التعامل مع الموقف الحالى، فقد كان لزاما على والديك أن يفكرا فى مثل هذا اليوم منذ زمن بعيد، وأن يخططا له، فمن المؤكد أنهما كانا يعرفان أن أولادهما سيدخلان الجامعة فى يوم ما، وأنهما سيحتاجان إلى تدبير أمور معيشتهم، وإلى تغيير الكثير من الأوضاع حينذاك، كان يجب عليهما أن يتفقا على أن يصبحا معا فى أى مكان وتحت أى ظرف، فإما أن تظلوا هناك جميعا، وتضحوا باختيار الجامعات المصرية، أو أن تعودوا جميعا إلى هنا، لتبدأوا معا رحلتكم من جديد.. أعرف أن الكلام أسهل من الفعل بكثير، لكن وللعجب تلك هى المشكلة (المزمنة) للعائلات المصرية المغتربة منذ قديم الأزل، والتى تعصف بأمن واستقرار أسر كثيرة، ولكنه وللأسف لا أحد يتعلم من أخطاء من سبقوه، ولا أحد يخطط لهذا اليوم كما يجب أبدا.
عودة لك يا آنستى، أؤكد لك أنى أقدر صعوبة موقفك، وقسوة حياتك، ولكنى تلمست من خطابك أنك شخصية ليست بالضعيفة أبدا، فأنت استطعت التأقلم مع تغير البيئة والمجتمع، ومع عدم استقرار المعيشة، ومع المعاملة السيئة، ومع ندرة الموارد، ومع دراسة صعبة، ومع جهد العمل أثناء الدراسة..أنت إنسانة مميزة بحق، حمولة، ومجتهدة، ومسئولة، وتفكرين برزانة شديدة، وتستحقين الكثير، ومن المؤكد أنك ستكونين شيئا عظيما يوما ما، فأنت الآن كالحديد الذى يتعرض للصهر والصقل حتى يصبح أقوى وأجود وأمتن فيما بعد، أؤكد لك أنك لديك الآن خبرات وقدرات ووعى ليسوا لدى الكثيرين ممن هم فى مثل سنك، صحيح قد تكون التجربة مؤلمة لكنها ستعلمك بلا شك، ستعلمك أن تعتمدى على نفسك، وأن تبحثى دائما عن أفضل ما عندك، وأن تقدرى قيمة الحب والمشاعر فى الحياة، لتصبحى أحن وأجمل زوجة وأم فى المستقبل إن شاء الله.
وردا على سؤالك أى الطرق تسلكين؟ أقول لك لا تتسرعى أبدا فى القبول بأى طالب ليدك تحت ضغط الظروف، أنت ستكونين حينها كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فمهما طالت فترة معيشتك فى بيت أهلك كم ستكون؟ 20، 25 سنة؟، لا تقارن إطلاقا ببقية عمرك الذى ستقضينه إن شاء الله فى بيت زوجك، والذى يجب أن تختاريه بعناية شديدة حتى لا تهربين من سيئ إلى أسوأ.
لا تجعلى احتياجك إلى الكلمة الحلوة والنظرة الحنونة يدفعك إلى التخلى عن أحلامك فى زوج المستقبل، فأنت تستحقين ذلك، وستجدينه بإذن الله، طالما تمسكت بطموحك وبإرادتك فى أن تكونى أفضل وأقوى مع الأيام، ولا تقصرى تفكيرك على الوضع الحالى، فما هى إلا سنة أو اثنتين لتتخرجى وتصبحى إنسانة أخرى، تعملين وتنجحين وتكبرين، وتبدأين رحلة تحقيق ذاتك، وحينها ستندمين أشد الندم إذا كنت تنازلت وقبلت الارتباط بمن لا ترضينه وتريدينه حقا.
ومن هنا إلى ذلك الحين لا تحرمى نفسك من العواطف والمشاعر الجميلة، ولكن من مصادر أخرى، لماذا لا تحاولين التقرب إلى إخوتك؟، فحتى إن لم تكونوا متفاهمين، فمن المؤكد أنه هناك منهم ولو واحد قابل للتفاهم والصداقة، لماذا لا تكسبى رفيقا لك فى بيتك من إخوتك؟، وماذا عن زملائك فى الدراسة أو فى العمل ؟، لماذا لا تحاولى اكتساب صديقة صدوقة منهم؟، لماذا لا تحاولين تبديد هذه العزلة النفسية التى أنت فيها بهؤلاء؟ ولو بشكل مؤقت حتى تجدين شريك حياتك المنتظر؟، بل والأكثر من ذلك لماذا لا تجربين مفاجأة أمك بالتقرب منها؟، لماذا لا تحاولين إخبارها بأنك تفهمين معاناتها، وتقدرين تضحيتها وتعبها؟، أعلم أنه صعب، لكنه إن حدث سيكون له أثر كبير فى علاقتكما بكل تأكيد.
وأخيرا أدعو الله لك من كل قلبى أن يعينك ويهون عليك تلك الفترة المقبلة، لكن دعينى أطمئنك (هانت إن شاء الله) ، اصبرى وتحملى فلم يتبق إلا القليل، وإن غداً لناظره قريب.
9/13/2019, 11:30 من طرف Sanae
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:18 من طرف زائر
» المهندسين خ
7/1/2015, 04:13 من طرف زائر
» تليفونات برنامج صبايا الخير بقناة النهار
6/27/2015, 09:30 من طرف زائر
» طلب مساعده عاجل
6/21/2015, 14:28 من طرف fatim fatima
» اغاثه
6/17/2015, 10:03 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:59 من طرف زائر
» موضوع مهم جدا وأرجو ألا تغفلوا عنه وأرجو ابتواصل
6/17/2015, 09:56 من طرف زائر